يتعاطى الرئيس نجيب ميقاتي مع الملفّات الضاغطة بأفق ضيّق وذاتي، قافزاً فوق جراح اللبنانيين. بل هو ينظر إليهم كأنّهم “امرأة مطلّقة” تحتفل بعيد زواجها، على ما قال منذ أيام في هجائه أحوالهم الاستقلالية.
كلّ تركيزه يتعلّق حالياً بكيفيّة عقد الشراكات كما كانت تسير الأمور قبل 17 تشرين. وما يحدث يؤكّد السبب الذي دفع ميقاتي إلى تشكيل حكومته مندفعاً بالدعم والطمع الفرنسيين، بالتقاطع مع الإيرانيين.
يفتقر خطاب ميقاتي لعنوان سياسي. فلا مشروع، ولا خطّة ولا خطاب سياسيّ يتوجّه به إلى اللبنانيين أو إلى الناخبين في منطقته، أو حتّى إلى مناصريه. وهذا يؤكّد أنّ تصدّيه لرئاسة الحكومة منبعه ذاتيّ وليس موضوعياً.
فقد لُزِّم مرفأ طرابلس إلى شركة فرنسية، بالشراكة مع شخصيات محسوبين سياسياً على ميقاتي. والأمر نفسه سيتكرّر مع مرفأ بيروت من خلال فتح مناقصات جديدة لتلزيم إعادة تشغيل المرفأ إلى شركة فرنسية، هي شركة cma cgm، بالتعاون مع شركة أخرى. وبذلك يحفظ ميقاتي حصة أصدقائه من الجثّة اللبنانية، وبالتكافل والتضامن مع الفرنسيين.
بالذهنيّة نفسها، يتعاطى مع ملفّ الكهرباء، وإغداق الوعود بتوفير 12 ساعة من التغذية الكهربائية. تشبه طريقة التعاطي بهذا الملفّ الأساليب القديمة نفسها، إذ اُستُدعي بعض الخبراء المتخصّصين في هذه المشاريع والحسابات، للاتفاق على وضع آليّة تتّصل بإنشاء شركة جديدة قادرة على الاستثمار في قطاع الكهرباء. وكان ميقاتي قد عقد، قبل حوالي أسبوعين، اجتماعاً دام أربع ساعات مع شخصية حضرت إلى لبنان من الخارج، وأُجريت الترتيبات اللازمة لإجراء هذه الزيارة كي لا يُثار حولها الكثير من الصخب السياسي والإعلامي.
تثبت هذه العقلية ضيق أفق مَن يدّعون العمل في المجال السياسي، فيما هم في الحقيقة يحوّلونه إلى حقل تجارب أو يراهنون على التعاطي مع البلد على طريقة “اللويا جيرغا”، فيستثمرون في حالة الانهيار وتعميم الجهل، أو تتفيه السياسة.
وربّما تشرح هذه السطور الأسباب التي تدفع ميقاتي إلى التغاضي عن معالجة الأزمة مع دول الخليج، والرهان على عنصر الزمن، والارتكاز على الموقف الفرنسي لتمرير مصالح مشتركة. لكنّ هذه السياسة تقود في النهاية إلى إضافة انهيار إلى انهيار. وحدها هذه السياسة ومَن يمثّلها يستوجبان المجابهة من خلال تكوين آلية سياسية وابتكار تنظيم سياسي جديد ذي رؤية تقوم على الموقف، لا على نوازع شخصية.
كيف نواجه؟
يفتقر خطاب ميقاتي لعنوان سياسي. فلا مشروع، ولا خطّة ولا خطاب سياسيّ يتوجّه به إلى اللبنانيين أو إلى الناخبين في منطقته، أو حتّى إلى مناصريه. وهذا يؤكّد أنّ تصدّيه لرئاسة الحكومة منبعه ذاتيّ وليس موضوعياً.
فللعمل السياسي في لبنان ثلاثة مقوّمات أو عناصر: المال، الخدمات، والأهمّ منهما الموقف. قد تمرّ على طرف سياسي مرحلة يعيش فيها حالة من الندرة المالية وعدم المقدرة على توفير الخدمات بسبب خروجه من لعبة السلطة مثلاً. ولكنّ هذا لا يعني أنّ السياسة بدونهما تقف عند هذه الحدود بانتظار البحث عن فرصة لإيجاد راعٍ خارجي، أو مزراب مالي أو خدماتي. تبقى طموحات الناس، حتى في أسوأ الأحوال المعيشية والاجتماعية، مرتبطة بالموقف السياسي، لأنّ رجل السياسة هو مَن يسوس الناس حاملاً همومهم وجامعاً إيّاهم حول قضيّة وفكرة.
يمكن للسياسة أن تستمرّ بإعلان موقف سياسي ذي عنوان عريض وخط استراتيجي تجتمع حوله جهات متعدّدة، على الرغم من غياب جانب الخدمات والحسابات الضيّقة. ولا يمكن حصر السياسة في الخدمات والعنصر المالي اللذين يحوِّلان رجل السياسة إلى مقاول أو تاجر، في لعبة “الزبائنية” التي برع فيها رجال السلطة في لبنان. وفي حال كان في مقام رفيع، يتحوّل إلى حريص وخائف على ثروات ومصالح غالباً ما تتعارض مع مصلحة بيئته وجمهوره.
لكن لماذا التركيز على أهمية الموقف السياسي؟
لأنّه لا يرتبط بحسابات آنيّة ولا مصلحيّة ضيّقة، ولأنّه يتماهى مع وجدان الناس التي تؤمن بأهمية وجود دولة هي التي تتكفّل رعاية المصالح وتوفير المستلزمات. وعندما يستشعر المرء مثل هذا المشروع يركن إليه مشبعاً بأمل وطموح، واثقاً بالوصول إلى ما يصبو إلى تحقيقه، بدلاً من أن يغرق في انتظار فتات سيأتي من هنا أو من هناك. وهذه قاعدة جوهرية لا يتعامل معها بجديّة مختلف الساسة اللبنانيين، الذين سرعان ما يعلنون الهزيمة أو الاستسلام عندما تسوء أوضاعهم الماليّة.
وأكثر الجماعات، التي تعيش مثل هذه المعاناة، هم السُنّة في لبنان، الذين خسروا الخدمات والعنصر المالي خلال أسوأ أزمة اقتصادية ومالية واجتماعية مرّ بها لبنان منذ تأسيسه. وها هم يخسرون البرنامج السياسي ذا الموقف الواضح الذي يُفترض به أن يعِدهم بغدٍ أفضل، بدلاً من سياسة الاستسلام. وثمّة دلائل كثيرة أخيراً على مثل هذا الانهيار، أوّلها يتجسّد في الضياع السياسي على بُعد أشهر من الانتخابات النيابية. وثانيها تجسّد في ما تشير إليه تقارير من انتشار الفقر والحاجة وتركُّزهما في البيئات السنّية، وتحديداً الشمال. وثالثها مؤشّر واضح إلى حالة الانهيار، وهو ما حدث في عكار بعد انفجار التليل، الذي لم تجرؤ على إثره أيّ شخصية سنّيّة تدّعي الزعامة والتمثيل على زيارة تلك المنطقة، فيما كان حزب الله متقدّماً ومخترقاً.
فطرابلس، مثلاً، التي صُنّفت أفقر مدينة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، تتمتّع بمقوّمات هائلة يمكن أن تحرِّك الدورة الاقتصادية فيها وتخلق فرص عمل لأبنائها، سواء في المرفأ أو المعرض أو غيرهما. وقد خرج من طرابلس رئيس الحكومة نجيب ميقاتي و4 وزراء، من بينهم وزير للمال. مَن عرف جيّداً تلك الحقبة وتابع ما جرى، يعلم كيف ألحق الصراع فيما بينهم المزيد من الإفقار بالمدينة. وشهادةً للتاريخ، كان غازي العريضي في تلك الحكومة وزيراً للأشغال، وربّما حقّق الرجل شعبية طرابلسية وشمالية لكثرة المشاريع التي نفّذها هناك، من توسيع المرفأ وتجديده وتشييده، إلى التحسينات في المعرض، ناهيك عن مشاريع أخرى. ومَن يعرف خبايا تلك المرحلة، يعرف جيّداً كم من المعارك خاضها ساسة طرابلسيون في وجه العريضي، لأنّهم تتملّكهم ذهنية المقاولين أو ذهنية تجويع الناس وإفقارهم للإمساك برقابهم أكثر، فأفشلوا كل المشاريع التي كان بإمكانها أن تحقّق نهضة في المدينة والشمال ككلّ، ومنها خطة نقل شاملة تكاد تكون الوحيدة في لبنان، لكن لم توافق حكومة ميقاتي حينها على تطبيقها.
خالد البوّاب