يعود لبنان إلى ميدان التجاذب وشدّ الحبال الإقليميين. ثمة من يريده أن يعود إلى حقبة ما قبل العام 2005. وآخرون يعملون على تكريس المرحلة التي تلت اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وتكرار سياقها السياسي، لا سيما في الانتخابات النيابية المقبلة. ولبنان يمر في مرحلة من الوقت الضائع على وقع تحولات عالمية كبيرة: عدم اهتمام الولايات المتحدة الأميركية بمنطقة الشرق الأوسط. والدليل تراجع علاقاتها بدول الخليج، وحتى مع اسرائيل. مقابل اهتمام واشنطن الأقصى بإنجاز الاتفاق النووي مع إيران، لتعويض حاجات سوق النفط، والاهتمام بالحرب الروسية الأوكرانية.
وانعدام الاهتمام الأميركي بالمنطقة، يدفع كل طرف إلى البحث عن أوراق قوته، في الإقليم كما في لبنان. وهذا ينعكس على التحالفات الانتخابية، وعلى الصراعات القضائية والمصرفية المفتوحة والمستمرة.
مسرح أميركي في لبنان
رئيس الجمهورية ميشال عون مثلًا يصرّ على أن يلاحق القضاءُ المصارفَ، مقتنعًا بعدم اكتراث أميركي، على خلاف ما كان الحال سابقًا: حماية حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. ونجح عون في جعل القضاء في صفه هذه المرة، رغم تعرض القضاة إلى ضغوط كثيرة، سواء من رئيس الجمهورية أو من رئيس الحكومة، وصولًا إلى تصريح ميقاتي: إذا لم يمتثل مدعي عام التمييز لطلبات الحكومة يعزل من منصبه.
وتقول مصادر إن رد فعل ميقاتي كان بعد الكلام عن تحريك ملفات قضائية ضده في موناكو وشركة ليبان بوست. ودفع هذا الصراع السياسي القضاء إلى التكتل: الإنسجام الواضح بين عويدات وسهيل عبود وغادة عون أيضًا، ومن خلال إقرار التشكيلات القضائية الجزئية.
هناك دليل آخر على عدم اكتراث أميركا بلبنان، إلا بملف ترسيم الحدود: تغيير سلوكها حيال المصرف المركزي، وصرفه أموالًا من الإحتياطي الإلزامي. فسابقًا كانت المواقف الأميركية والغربية لصالح رفع الدعم، وعدم تبديد الأموال، والحفاظ على الاحتياطي الإلزامي، وتنسجم مع مواقف منع التهريب بسبب الأسعار الزهيدة في لبنان مقارنة بالخارج.
بعد رفع الدعم تحولت المواقف والخطوات المالية إلى حماية ميقاتي ورياض سلامة معًا، بدلًا من حماية الناس. ليتكفل اللبنانيون مصاريف حماية الرجلين، من خلال البهلوانيات المالية التي تجري عبر منصة صيرفة، وضخ دولارات في الأسواق للحد من ارتفاع سعر صرف الدولار. وحصل ذلك بناء على اتفاق ضمني بين ميقاتي وسلامة، ليحمي كل منهما الآخر بتبديد الأموال على مرأى الجميع، بما فيهم المجتمع الدولي.
مسرح عون وميقاتي
يفتح هذا الأبوابَ لسعي كل طرف إلى ترتيب أوراقه: عون يسعى من خلال ترسيم الحدود والفاتيكان وأساليب أخرى، لتعويم عهده وتقوية جبران باسيل، محافظًا على علاقته بحزب الله.
ميقاتي يسعى من خلال الضغط على القضاء والتعاون مع حاكم مصرف لبنان، لحماية حكومته لأقصى مدة ممكنة، وتجنب انفجارات اجتماعية. وهو يعمل مع الفرنسيين على تحسين علاقات لبنان الخليجية، للحصول على متنفس جديد. ويظهر ذلك من مواقفه المؤكِدة على التزامه بالمبادرة الكويتية. وهذا قوبل بترحيب سعودي وكويتي، يستثمره ميقاتي بحجز مقعد له في المستقبل.
مسرح انتخابي إقليمي
وهذا ينعكس مزيدًا من الفرز السياسي والانتخابي في المرحلة المقبلة. ففي ظل التقدم على خطّ العلاقات الخليجية- اللبنانية، تبرز زيارة وزير خارجية إيران حسين أمير عبد اللهيان إلى لبنان ودمشق. وتأتي الزيارة بعد زيارة بشار الأسد إلى الإمارات، وتنسيق مصري- إماراتي- إسرائيلي للمرحلة المقبلة، وسط اعتراضات مشتركة مع السعودية على الاتفاق النووي، وما تحصِّله إيران في هذا المجال.
تؤثر هذه التطورات على الوضع الإنتخابي اللبناني: تنامي وجهة نظر استعادة النظام السوري حضوره في لبنان، والتنسيق الإماراتي معه لإبعاده عن إيران. وهذا مستحيل. والدليل زيارة عبد اللهيان إلى دمشق.
وينعكس ذلك في بعض التحالفات الانتخابية، التي يريد البعض تصويرها وكأنها سابقة لمرحلة العام 2005: الفصل بين قوى 8 آذار الموالية لإيران، وقوى 8 آذار الموالية لدمشق، بناءً على وجهة نظر تقول إن هناك فكرة عربية لاستعادة الحضور في لبنان استنادًا إلى الدور السوري. وهنا تظهر بعض التحالفات الانتخابية، سواء في المتن مثلًا بين القوميين السوريين والطاشناق وآل المرّ. وكذلك في بيروت: الانفصال بين الأحباش، الموالين لسوريا مقابل تشكيل لائحة منفصلة لحزب الله. وقد تكون هذه كلها تكتيكات هدفها مصالح انتخابية. لكن هناك جهات عدة تحاول تصويرها أبعد من ذلك.
وعلى العكس من ذلك، هناك من يسعى لإعادة تكريس الواقع السياسي والانتخابي لحقبة ما بعد العام 2005، والتحالف بين طرفين كبيرين: حلفاء السعودية، وحلفاء سوريا وإيران. وهذا يظهر في مفاوضات تسعى لإنتاج تحالفات انتخابية واسعة بين السنة والقوات اللبنانية والحزب التقدمي الإشتراكي وقوى وشخصيات مستقلة.
أحزاب السلاح كيانًا للدول
يدخل لبنان مرحلة تكريس وضع حزب الله في الداخل اللبناني وفي بنية النظام. وهذا ما تظهره مواقف عون المتكررة، وظروف إقليمية ودولية تصب في صالح حزب الله. فأي نقاش في المعضلة اللبنانية صار يختزل في وضع حزب الله ودوره. وغاب هامش للفصل بين الحزب عينه والدولة اللبنانية. وكلما طال أمد تأجيل التسوية يدفع لبنان ثمنًا أكبر.
تزامن ذلك مع الحديث عن عودة الخليجيين إلى لبنان. وكأن هناك من يضع شروطًا في الداخل أو في الخارج للدخول في نقاش مع حزب الله، بغض النظر عن عدم إجراء هذا الحوار مباشرة، إلا إذا كانت عودة السعوديين إلى لبنان استجابة لموقف واضح والحضور بفاعلية.
ويوضح كلام عون في الفاتيكان مدى تنسيقه مع حزب الله. ففي لحظة الاتفاق النووي، والتطورات الحاصلة في المنطقة، وإعادة الفرز السياسي بحثًا عن تسويات، يمنح عون مجددًا المزيد من المشروعية لحليفه الحزبي. وهذا يرتبط بسياق استراتيجي واضح لديه. وفي الأساس كان باسيل قد قال سابقًا إن الظروف ستتغير بعقد اتفاق إيراني- أميركي ينعكس لبنانيًا، فيستفيد هو ويخسر الآخرون رهاناتهم.
وهناك وجهة نظر تقول إن الظروف الدولية كلها تصب في خانة تكريس دور حزب الله، وكذلك دور الحوثيين في اليمن. وهذا بعد صدور موقف عن الخارجية الأميركية قبل أيام، يقول إن المساعي لوقف إطلاق النار والحل السياسي في اليمن ترتبط بمدى موافقة الحوثيين. وهذا الموقف من أخطر ما يكون في المواقف الأميركية. فهو لا يعني إضفاء الشرعية على الحوثيين فقط، بل الاعتراف بأن كل ما يجري في اليمن يتعلق بهم وبمدى موافقتهم أو معارضتهم.
لا ينفصل ذلك عن احتمال رفع الأميركيين للحرس الثوري الإيراني عن لائحة الإرهاب. فهذا ينعكس حتمًا إيجابًا لمصلحة حزب الله، وهناك معلومات تفيد أن الإيرانيين يطالبون أيضًا برفع إسم حزب الله عن لائحة الإرهاب. وتقول المعلومات: “الإيرانيون أبلغوا الأميركيين بأن الحرس الثوري جزء من كيان الدولة الإيرانية، ولا بد من رفع الحظر عنه. وطالب الأميركون بصدور بيان من الحرس بوقف التصعيد، لكن الحرس رفض، ورفع الإيرانيون مطلب رفع فيلق القدس في الحرس وحزب الله عن لائحة الإرهاب”.
منير الربيع لموقع المدن