في لبنان، الآتي أعظم، سيكون أعظم بكثير، ما لم يحصل انعطاف جذري في إدارة الأزمة، غير المسبوقة عالمياً بتعقيداتها ومداها وآفاق تطورها.
ما جاء قبل فترة على لسان رئيس الجمهورية، ربما في زلة لسان أو في لحظة تجلّ عابرة، أن لبنان يوشك أن يقع في الجحيم، بات حقيقة شبه مكتملة اليوم. وما يجب استقراؤه، أو لنقل التحذير منه في هذه اللحظة الدولية المفتوحة على أدقّ الاحتمالات، هو ماذا بعد الجحيم؟ ماذا تشبه الحياة في بلد مفلس لا ينتج في أحسن الأحوال ثلث ما يحتاجه سكانه من الغذاء، فيما العالم منشغل بتفادي حرب كونية جديدة أو ربما الاستعداد لمثل هذه الحرب، والدول آخذة بالانغلاق على نفسها وعلى مواردها الغذائية والاستراتيجية. الغزو الروسي المفاجئ لأوكرانيا، واشتعال خطوط التماس في عقر دار القارة العجوز بعد 77 عاماً على انطفائها، ووقوف العالم الغربي صفاً متراصاً خلف واشنطن في التصدي للغزو الروسي، واشتداد حرب العقوبات، كل ذلك يجعل من الصعب جداً استبعاد أي احتمال في ما يخص مستقبل العلاقات الدولية والسلم العالمي، مهما كان مقلقاً.
ورغم صعوبة المقارنة، ثمة في تاريخنا الحديث، عشية ولادة لبنان الكبير، وفي لحظة انتقال عنيفة بين عالمين وحقبتين، عبرة لم تُنسَ بعد عن مجاعة أفنت ثلث سكان لبنان الصغير.
في عالم مستقر ومسالم، المعادلة بسيطة. يمكنك أن تشتري من الأسواق المفتوحة ما تحتاج إليه ولا تنتجه. يكفي أن تمتلك المال اللازم. في عالم مضطرب ومقطع الأوصال، أو في عالم على شفى حرب أو يكابد لتجنبها، المسألة أكثر تعقيداً. قد تضطر إلى دفع أثمان مضاعفة لقاء ما تحتاج إليه، كما يمكن ألا تجده أبداً. وما ينطبق على الغذاء، ينطبق أكثر على النفط ومصادر الطاقة وسائر السلع الاستراتيجية.
لبنان يعاني الأمرين معاً. حرب أوكرانيا، وما تلاها وما قد يليها، تأتي في التوقيت الصعب جداً لبلد يواجه أصلاً عجزاً هائلاً في ميزان المدفوعات وشحاً كبيراً في التدفقات النقدية من الخارج، وبالتالي في الموجودات المتاحة من العملة الصعبة. ربما ما زلنا اليوم نجد من يبيعنا نفطاً وقمحاً ولحوماً وغذاء، لكن لا نملك المال الكافي لذلك؟ في الأساس، هنا تكمن اليوم مثلاً عقدة تأمين الكهرباء بعدما أمعن الفريق الحاكم في التعامل معها لعقود بوصفها البقرة الحلوب للدولة. العراق، مشكوراً، يبيعنا النفط منذ حوالى السنة بنصف سعره العالمي، ونحن لم نسدد له بعد أي دفعة من مستحقاته. البنك الدولي مستعد لتغطية ثمن الغاز والكهرباء اللذين يمكن أن يصلانا من مصر والأردن لمدة سنة واحدة في أحسن الأحوال. ماذا بعد؟
هذا كله قبل اندلاع حرب أوكرانيا، وقبل الارتفاع الصاروخي للأسعار.
معضلة لبنان أنه لم يكتف بمراكمة كل الموبقات السياسية والمغامرات الاستراتيجية والمجازفات المالية والنقدية دفعة واحدة خلال السنوات العشرة الماضية، أي تحديداً منذ اندلاع الحرب السورية، إلى أن حصل الانهيار في 2019، بل ما من شيء يُذكر تم القيام به منذ 2019 من أجل بدء المعالجة ووقف النزيف والانهيار، في حين أن جدول أعمال العلاجات الطارئة والإصلاحات الأساسية والبديهية المطلوبة في مثل هذه الحالات، معروف وواضح. على العكس، تواصلت السياسة نفسها القائمة على الزبائنية والمحاصصة وتقاسم المال العام وموجودات مصرف لبنان، التي تسمى خطأ الاحتياطي، في حين هي في الحقيقة جزء بسيط من أموال المودعين. هذه الموجودات التي كانت تزيد عن 30 مليار دولار في مطلع الأزمة في خريف 2019 لم يتبقَ منها اليوم أكثر من عشرة مليارات. الفارق، أي 20 مليار دولار، أُهدر جزء كبير منه على تمويل الدعم الفضائحي المزعوم للمحروقات والسلع الاستهلاكية، الذي انتهى معظمه في جيوب المهربين والمحتكرين المرتبطين مباشرة بالسلطة السياسية. صحيح أن فجوة الخسائر المالية كبيرة جداً وتتجاوز 100 مليار دولار، لكن 20 مليار دولار مبلغ هائل كان يكفي لإطلاق وتمويل أي برنامج إصلاحات يحتاجه لبنان. للتذكير فقط، التفاوض على ترياق صندوق النقد الدولي يتم على مبلغ لا يتجاوز في حده الأقصى أربعة مليارات دولار.
التحالف الحاكم، الذي أتيحت له فرصة الاستمرار في السلطة بعد انفجار مرفأ بيروت وتراجع زخم الانتفاضة الشعبية وعجزها عن التحول إلى حركة سياسية منظمة، اختار طريقاً مغايرة أكثر انسجاماً مع خياراته السياسية والاستراتيجية والاخلاقية. نتيجة هذا الخيار كانت تبديد وتقاسم الـ20 مليار دولار هذه، بل أيضاً إطلاق عجلة تضخم فائق وغلاء فاحش، جعلت حياة الفئات محدودة الدخل ومعظم اللبنانيين جحيماً اقتصادياً واجتماعياً لا يطاق. الأكثر فداحة، أن الأشهر الثلاثين المهدورة تلك من عمر لبنان أجهزت، أو تكاد تُجهِز، على الركائز الأساسية للاقتصاد اللبناني، ولأي اقتصاد، وهي: نظام المدفوعات، نظام الطاقة، نظام الاتصالات، نظام المواصلات والنقل، النظام الإداري للدولة، وسلاسل التوريد.
نظام المدفوعات، الذي يمثل بالنسبة للاقتصاد ما تمثله الدورة الدموية للجسم، ما زال مشلولاً بنسبة كبيرة، ومعلقاً ما بين مكابرة المصارف ورفضها تحمل حصتها العادلة من خسائر الانهيار من ناحية، والسياسة النقدية المشبوهة لمصرف لبنان من ناحية ثانية، القائمة على تعددية أسعار الصرف والتي تتيح هامشاً كبيراً من الفساد والاقتطاع التعسفي من قيمة الودائع المصرفية والمدفوعات عموماً، بما يشمل الرواتب والأجور وثمن السلع والخدمات. كذلك تنحسر تدريجياً وبسرعة إمكانية استخدام الشيك أو البطاقة المصرفية، حتى في معاملات الدفع المحلية، بعدما كانت توقفت منذ زمن طويل كوسيلة دفع خارجية، ويتحول الاقتصاد إلى اقتصاد نقدي في عودة دراماتيكية إلى “القرون الوسطى المصرفية”.
تعطل نظام المدفوعات وانهيار سعر الصرف الفعلي للعملة انعكسا تعثراً في سائر أنظمة الاقتصاد. فأزمة المحروقات والتردي المريع للاتصالات والمواصلات وشلل الإدارة العامة والخلل في سلاسل التوريد لكل القطاعات تقريباً، تتأتى من جذر مزدوج واحد، هو عجز ميزان المدفوعات وتعطل نظام المدفوعات.
فوق تعطل أو تشوه كل تلك الأنظمة، يضاف الأثر المريع على كل من النظامين الصحي والتعليمي ونظام الحماية الاجتماعية، بما فيه صندوق الضمان الاجتماعي وتعويضات نهاية الخدمة، التي ذابت ذوباناً كلياً، واضعة في العراء تقاعد مئات آلاف الأجراء في القطاعين الخاص والعام المنتسبين إلى الضمان. الكلام يطول في هذا المجال إنما تكفي الإشارة إلى أن تدمير هذه الأنظمة الاجتماعية هو ما يجعل معظم اللبنانيين يصنفون علمياً كفقراء، وليس التضخم وذوبان الأجور والودائع وغلاء المعيشة وسوء التغذية فحسب.
ما لا يدركه ربما كثيرون أن تعطل تلك الأنظمة أو معظمها لم يعد ظرفياً بل بات هيكلياً، وإعادة بنائها وتفعيلها قد تتطلب عقوداً من الزمن، في حين أن التصدي للأزمة في أشهرها الأولى عبر سياسات جذرية مغايرة كان كفيلاً بإنقاذ تلك الأنظمة الحيوية، أو الحد من انهيارها والحد من معاناة اللبنانيين. وربما ما كنا اليوم نتقلبّ في هذا الجحيم الذي تحدث عنه المسؤولون من دون أن يفعلوا شيئاً لتفاديه، ونوشك بالانتقال سريعا إلى “ما بعد بعد جهنم”!
انطوان حداد