في تراث “الخياطة” اللبنانية، استُعمل تعبير “توب” كوحدة لقياس كمية من القماش. جميل التراث، يرسم صورة ما تختزنه المجتمعات من عادات وأفكار وقواعد زالت، وأُخرى ما زالت سائدة.
الأفكار والعادات والعِبر ذات قيمة أخلاقية أو اجتماعية، لكنّ قوّتها وقيمتها تكمنان في حقيقتها. حقيقة استقتها نحتاً بإزميل الزمن وخلاصات “التجربة والخطأ”، على مدى سنوات وعقود أو حتّى قرون. هي الناطق الرسمي والصادق باسم الفكر المجتمعيّ.
“الكذب ملح الرجال” مقولة فائقة الإنتشار في مجتمع السبع عشرة طائفة. في كلٍّ منها الكذب حرام. الملح، أي الكذب، هنا إيجابي وضروري، ويضيف إلى الرجولة نكهة ودهاء.
كلام النساء محصور بالأفران. كلام الرجال مرتبة متقدّمة، لا تحوزها النساء. لا كلام لهنّ أصلاً، ولا آراء، كلامهنّ، أو آراؤهنّ، إذعاناً لكلام الرجال، الذين إن تكلّموا في المساواة الجندرية، يصبحون “متل نسوان الفرن”. لا نعرف لماذا لم يزل كلامهنّ محصوراً هناك، على رغم المكننة التي طرأت على الأفران.
السلاح زينة الرجال، فيما للنساء زينة العطر، وللمفارقة من لا أب لها ولا أخ أو زوج تنجو بالجرم. لا يقتلها باقي الرجال، بل يحتفون بها. يرون فيها فرصة لإشباع ذكوريّتهم بلا حساب، فـ “الرزق السايب بـ علّم الناس الحرام”.
الأقوال التراثية فائقة الجمال، في الإختصار والبلاغة والنثر الزاخر بالمعاني. يعوم بها باطن العقل المجتمعي على ألسنة أهل المجتمع نفسه. يفضح نفسه بنفسه، “أنا وخيّي ع إبن عمي وأنا وإبن عمي ع الغريب”. قَول آخَر غريب. يخيّل للمرء أنّه يثمّن التضامن العائلي، وهذا أمر حسن، ولكن لا مكان للحق فيه ولا للعدالة. قف مع الأقرب، عشيرتك، منطقتك، حزبك، طائفتك. من هو الغريب؟ لا نعلم. أهو هارب أم لاجئ أم عاملة منزل؟ لا يهمّ إن كان مخطئاً أم مصيبا. هو غريب ونحن ضدّه.
يكنّ تراثنا للذكاء تقديراً عميقاً. يقول: “شيطان مدَمشَق ولا ملاك غشيم”. يفضّل الدهاء على الغباء، حتى لو كان الأول شيطانياً والثاني إنسانياً أو عادلاً أو صادقاً. الذكي أفضل، وينجز أكثر، فهو قادر أن “يُرَكّب الدكر ع الدكر”. لماذا ركوب الذكر للذكر بحاجة لكل هذا الدهاء؟ لماذا المِثليّة مضربٌ لأمثال شعبية عن الذكاء؟
جميلة هي الأقوال التراثية الشعبية. تساعد في أبحاث علم الإجتماع والأنثروبولوجيا. تقول الحقيقة والمبادئ التي يسير بها المجتمع. ربما لو عاد إليها وزير الداخلية قبل إصداره تعميمه الموسوم بعبارة “عاجل جدّاً”، لما أخد بكلام المراجع الدينية التي نصحته بالتصرّف ضدّ حرية الأفراد بهويّاتهم الجنسية. أقوال التراث لم توفّر المراجع الدينية. قالت فيهم: “تَوب قماش ودقن بـ بلاش”. ربما كانت لتضيف: “… وعقل فوفاش”، لكنّ وزير الداخلية حديث العهد، وهي لم يتسنَّ لها الوقت لصياغة كلامٍ في محادثات “تَوب قماش” وحقيبة وزارية.