ثمّة لحظة خطرة في العالم اليوم، يعتمد وقوعها من عدمه على عقلانية بوتين. فالعالم الغربي يقود حرباً شبه معلنة عليه في أوكرانيا، وهو يعاني الإذلال على نحو مفضوح، مع أنه يضع يده على زر إطلاق ثاني أضخم ترسانة نووية في العالم. وبعدما قاتلت قواته جيداً في الربيع، ثم كبح جماحها في الصيف، ها هو يتقهقر في الخريف.. فما الذي يحمله له شتاؤه القاسي المقبل؟

 

منذ أن تعرض مطار ساكي في جزيرة القرم، لضربة صاروخية أوكرانية دقيقة وبعيدة المدى، في حزيران، قلنا أن بصمات الناتو لم تعد ملاحظة في التسليح والتذخير الأوكراني فقط، بل تجاوزتها إلى الخطط والتنظيم والقيادة المباشرة، وتمضي القوات الأوكرانية الآن بخطة عسكرية مُحكمة، مع موارد محدودة لكنها كافية لتحطيم آلة موسكو العسكرية بدقة وابتكارية عالية في المعركة البرية.

 

وكشفت لائحة نشرتها صحيفة “لوموند” الفرنسية مؤخراً عن الأسلحة “المعلومة” المقدمة إلى كييف من قبل دول حلف الناتو، وهي في مجملها أسلحة لا يتجاوز تأثيرها مسافة 50 كيلومتراً، باستثناء سلاح استخدم مرة واحدة يبلغ مداه 300 كيلومتراً يُحتمل أنه منظومة ATACMS الصاروخية، والتي نُفّذ هجوم مطار ساكي بواسطتها. لكن هذه الأسلحة، وعلى الأخص منظومة هيماروس الصاروخية الأميركية، استُثمرت بإبداع لتدمير مخازن قذائف المدفعية الروسية في خط الجبهة، وتركت القوات هناك من دون أي غطاء. فيما استُخدمت منظومات الدفاع الجوي المتقدمة لمنع أي جسم طائر، سواء كان طائرة نفاثة أو حوامة أو طائرة بلا طيار، من التحليق في سماء المعركة. ثم اندفع المقاتلون الأوكران بمعلومات دقيقة ومعنويات عالية، لتمزيق شمل القوات الروسية سيئة التنظيم والمصدومة، وفرّت من ميدان المعركة بطريقة فوضوية مُخلّفة أسلحتها وراءها.

 

كيف حدث أن دُمّرت مخازن الذخيرة الروسية على وجه التحديد؟ هذا يقود إلى سر تلك المعركة المكشوف. فالتفوق الغربي في مجال الاستطلاع والاستخبارات، تُرجم هنا إلى معرفة دقيقة بكل قطعة سلاح وذخيرة عبرت الحدود الأوكرانية، والمكان الذي خُزّنت فيه، ولم يعد القادة الأوكران بحاجة سوى للحصول على إحداثيات تلك المواقع، وتحميلها على منظومة هيماروس التي تستخدم نظام تحديد الموقع العالمي GPS ليتكفل صاروخ واحد بإخراج كتيبة مدفعية دبابات من المعركة بحرمانها من الذخيرة، مع مواصلة استهداف سلاسل الإمداد وتحطيمها قبل وصولها إلى وجهتها النهائية.

يخيم ما يشبه هذا المثال على كامل القوات الروسية، في البر والجو والبحر. وعملية استهداف الطرّاد “موسكوفا” تشهد على ذلك. بل أن حال الانكشاف وتفوق الطرف الآخر، تنسحب على المجالات غير العسكرية أيضاً، مثل السياسة والاقتصاد والإعلام. ورغم عزلة بوتين وصمته، إلا أن الخبراء الغربيين يلاحقون أدق التجاعيد في وجهه لمعرفة ما إذا كان يخضع لعلاج من مرض ما، والآلة الإعلامية والدعائية تلاحق أبسط التعليقات في وسائل التواصل الاجتماعي لتحصي عدد قتلاه الذين لا يُعلن عنهم رسمياً. إنهم يخنقونه، فما الخيارات المتاحة أمامه؟

بوسع بوتين أن يواجه المآزق بطُرق ثلاث. واحدة سياسية، وأخرى عسكرية، وثالثة مختلطة. ففي المقام الأول، هو ما زال قادراً على عقد صفقة مع الغرب تمنع انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو مقابل إنهاء “العملية الخاصة” وانسحابه من أراضيها، وسيكون رفع العقوبات الهائلة المفروضة على بلاده بمثابة مكافأة لإسكات الانتقادات التي ستوجه إليه في الداخل الروسي، خصوصاً من قبل المعسكر اليميني الذي أيده عند إعلان الحرب، لكنه اليوم يشن عليه وعلى قادته العسكريين أقسى الحملات احتجاجاً على أداء القوات العسكرية والهزائم التي لحقت بها، لا سيما على جبهة خاركيف. وهذا الخيار “الصعب” يمكنه أن يحفظ ماء وجه بوتين، لكنه عملياً سيأذن بأفول نجم حكمه، وربما سقوطه في وقت لاحق، كما يحدث عادة في روسيا مع القادة الذين يخسرون معارك كبرى.

 

أما الاحتمال العسكري، فيتلخص في إعلان الحرب الكاملة على أوكرانيا، وفرض التعبئة العامة، وتوجيه كل الجيش الروسي غرباً حتى الوصول إلى كييف وإعلان الانتصار فيها. وهذا الخيار خطر. فماذا لو رفع الغرب مستوى دعمه للجيش الأوكراني وحطم الجيوش الروسية هنا أيضاً؟

الخيار الثالث المختلط، يبدو الطريق الأكثر احتمالاً، بالنظر إلى شخصية بوتين كمقامر عقلاني. إذ يمكنه اللجوء إلى أسلحة الدمار الشامل التي لطالما أشار إليها، واستخدامها تكتيكياً، وربما على نطاق واسع، لكن لمرة واحدة وبطريقة لا يمكن معها إثبات استخدامه لها. كأن يفجر سلاحاً كيميائياً أو بيولوجياً، وليس نووياً، في منطقة صراع تعج بالمدنيين من الناطقين بالروسية، واتهام القوات الأوكرانية باستخدامها، والتهديد بالردّ بالمثل. وهذا سيجبر الغرب على التوقف عن ضربه، وعرض صفقة محسنة معه، تبدأ بعمليات وقف لإطلاق النار في المناطق المشتعلة وبدء سلسلة مفاوضات طويلة، يعيد خلالها ترتيب أوراقه ووضعه الداخلي والدولي.

الفساد البنيوي في الدولة الروسية، خصوصاً في المؤسسة العسكرية، التي صار واضحاً أنها لن تستطيع إنجاز مهماتها بسبب تأخر تسليحها مقارنة بالغرب، وعدم كفاءة قادتها، وضعفها اللوجستي، يصب في إمكانية انتقاء بوتين للخيار الثالث. أي التلويح بأسلحة الدمار الشامل، مع فتح باب السياسة والتسويات، ومقايضة عدم انضمام أوكرانيا للناتو، بالأراضي المحتلة، وضخ الغاز إلى أوروبا مقابل رفع العقوبات، وإنهاء مسار هذا الصراع عند هذا المستوى، الذي يجب على الدول الغربية بدورها أن تحرص على عدم تجاوزه، ليس لأنها عاجزة عن التفوق في المسارات الأخرى، لكن لأن مُضيّ بوتين في أحدها، سيفضي إلى سقوط سلطته، ولن يكون بديله سوى النخب اليمينية الأكثر شعبوية وعداء للغرب، والتي لا يمكن أن يُترك المخزون النووي الروسي ليقع تحت يدها.