انبنى وعي اللبنانيين منذ الاستقلال على ثنائية مغلوطة عنوانها خوف المسيحيين من غلبة عددية في محيط إسلامي وغبن لحق بالمسلمين في لبنان بسبب هيمنة المارونية السياسية على النظام. انفجرت الحرب الأهلية وأطرافها يبحثون عن معالجة لهذه الثنائية، وتوصلوا في اتفاق الطائف، انطلاقاً منها، إلى إقرار إسلامي بلبنان وطناً نهائياً وتنازلات عن امتيازات منسوبة إلى المسيحيين، جرى تلخيصها بإعادة توزيع الصلاحيات بين الرؤساء.
الخوف صحيح. وهو متجذر في الذاكرة المسيحية منذ أيام السلطنة. والغبن صحيح لأنّ المارونية السياسية أيام الانتداب وفي المرحلة الأولى من الاستقلال، ثم في مرحلة ما بعد الطائف، ولاسيما ما بعد نهاية عهد ميشال عون، شككت بلبنانية أهالي الأقضية الأربعة المنضمين إلى لبنان الكبير من غير المسيحيين، واستندت في شكوكها إلى بعض الدعوات للالتحاق بسوريا الكبرى وإلى هالة أحيط بها دور عبد الناصر القومي وإلى تنامي دور «حزب الله» وراعيه الإيراني في لبنان والمنطقة. لكن تشخيص أزمة النظام اللبناني بهذه الثنائية هو المغلوط، بدليلين اثنين، عهد فؤاد شهاب واتفاق الطائف.
الدليل الأول أثبت أنّ احترام الدستور(الكتاب، بحسب تعبير فؤاد شهاب)، سبيل صالح لبناء وطن لا يشعر فيه أحد بالخوف، ولبناء دولة لا يشعر فيها أحد بالغبن. فيما أثبت الثاني أنّ انتهاك الدستور بعد التعديلات التي أدخلت عليه هو المسؤول عن مفاقمة أزمة تمتد جذورها إلى ما قبل التعديلات، وخصوصاً إلى انتهاك مبدأ المساواة بين المواطنين.
التشخيص بالثنائية مغلوط لأنّه، استناداً إلى الشعور بالخوف وإلى الشعور بالغبن، أي إلى ظاهرات دراستها من اختصاص علم النفس، ليقترح وصفة علاجية لقضية سياسية، ما أباح اللجوء إلى المنهج ذاته في مقاربة قضايا أخرى كالطائفية وإزالتها من النفوس قبل النصوص. لو كان هذا المنهج صالحاً لوجب أن يكون الحكام في كل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية من علماء النفس لا من علماء السياسة والاقتصاد ورجال الدولة.
المنهج السياسي يقول غير ذلك. حين لا يتساوى المواطنون أمام القانون، يتسرب إلى نفوسهم الخوف من الآخر المختلف في عقيدته السياسية ودينه وطائفته ولونه وجنسه، وذلك لأنهم لا يعرفون أنّ الاختلاف من طبائع الخلق. ففي الدين، «لو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة» (القرآن)، وفي الفلسفة «الموت في التماثل والاختلاف حياة الزمان» (مهدي عامل).
لا يزول الخوف بجعل المواطنين متماثلين في الأفكار السياسية والعقائد الدينية، ولا بتجميع المتشابهين في كانتون واحد، بل بجعلهم جميعاً، رغم اختلافاتهم، سواسية أمام القانون. وإلا فإنّ المنهج النفسي يذهب بالمواطنين إلى المصحات، كما أنّ المنهج الكانتوني سيرمي بهم في تهلكة الحروب داخل البيت الواحد.
التنوع من خصائص المجتمعات الحديثة في الحضارة الرأسمالية، وإلغاؤه لا يعني سوى العودة إلى الحضارة السابقة، حضارة الأرض، وإلى أنظمة الاستبداد ومن بينها نظام الملل بنسخة معدلة أطلقوا عليها إسم الفدراليات.
التنوع ميزة ومصدر غنى وثروة وطنية. في دولة الكفاءة وتكافؤ الفرص لا يُسأل عن الاختلاف إلا لأنّه حق من حقوق الإنسان قرين الحرية. أما في دولة التشبيح الميليشيوي فلا فضل لمواطن على مواطن إلا بحجم الولاء للزعيم في الطائفة أو في حزب الطائفة. هناك يتدنى معيار الكفاءة حتى حدود التزلف وتسود قيم الراعي والرعية والقطيع ومصطلحاتها المناسبة.
ثنائية الخوف والغبن تعالج في إطار الديمقراطية في دولة القانون والمؤسسات والكفاءة وتكافؤ الفرص.
الكاتب: محمد علي مقلد
المصدر: نداء الوطن