يراهن كثيرون على قدرة مصرف لبنان وحاكمه بالإنابة على العبور بين الألغام المتعددة الأوجه والأهداف المزروعة في طريق، وهو يعيش يومياته كما اليتيم، لا أب يحميه، ولا أمّ ترعاه، بل كلاهما يطلبان ولا يكفّان عن الطلب. الدولة التي اعتادت “حلب” مصرف لبنان، واستخدام أمواله واحتياطاته، لصرفها في موازنات عاجزة وغير متوازنة، لا تزال تستسهل طلب المزيد، ولا تزال “تنقّ” على “المركزي”، وإنْ بوتيرة أخف، بضرورة تدبير ما يتيسر له من دولارات لخدمة قرارات اتخذتها أو تمويلات أقرتها من دون تأمين واردات لها أو تسليفات.
إنكار السياسيين للواقع المزري للإقتصاد، ولوضعية الليرة ومستقبل المصارف، ومصير الودائع، يبدو في ظاهره صراعات سلطة وسياسة، فيما واقع الأمر أنه تحوّل إلى ثقافة مستشرية بين أهل الدولة، تستسهل التأجيل والمماطلة والتسويف في كل أمر يخدم معركة الخروج من الإنهيار والسقوط.
فعل مصرف لبنان ما عليه، فاستمر بدفع رواتب القطاع العام والمتقاعدين بالدولار على سعر “صيرفة”، وأمّن اللازم من ضرورات تسهيل عمل الدولة. لكن “المركزي” ليس الدولة، ولا يمكنه أن يكونها، أو يحمل أثقالها وحده، فيما أهلها يتناحرون ويتناكدون، من دون الإقدام على إقرار قانون واحد أو قرار، يساعده على الصمود أكثر في حماية ما تبقّى من قيمة لليرة، أو من القطاع المصرفي.
الأزمة كبيرة وصعبة، لكن المعالجات في المقابل صغيرة وموضعية. يحتاج لبنان الى جرأة في ممارسة المسؤولية، كما فعل “المركزي”، حين رفع البطاقة الحمراء في وجه اتكال الدولة المفرط عليه فألغى جميع الإستثناءات وبينها الزامها تسديد رواتب الديبلوماسيين من حسابها بالـ”فريش دولار” بدل أن يكون على سعر صرف 15 ألف ليرة.
يدرك مصرف لبنان جيدا أمراض الإقتصاد، وموضع الوجع فيه، لكن أكثر ما يخشاه إنفلات التضخم، وزيادة الكتلة النقدية في السوق، ما يعيد الدولار الى القفزات المجنونة، وتسريع السقوط.
التفاؤل الذي يبديه المسؤولون في مصرف لبنان مرده الى وضوح الرؤية لديهم حول السبل الكفيلة بإعادة صياغة وإطلاق العجلة الإقتصادية، وتحريك عجلة النمو، عبر إقرار جميع القوانين والتشريعات المطلوبة بالسرعة القصوى، والإتفاق مع المؤسسات الدولية على حزمة المساعدات الموعودة. من هنا تؤكد مصادر الحاكمية انه “اذا ما حزمت الدولة أمرها وأقرت القوانين الإصلاحية، وبدأت رحلة الإنقاذ الجدية، فلن يجد مَن في مصرف لبنان حرجاً في القول إنه يمكن عندها أن يلاقي الدولة في منتصف الطريق، وقد يبادر الى ضخ نحو ملياري دولار من الإحتياط لديه، في شرايين المصارف، لتنشيط وظيفتها المعطلة ودورها من جهة، ولتفعيل آلية إعادة الودائع بالتقسيط الى أصحابها من جهة اخرى”.
يدرك مصرف لبنان جيدا المشكلة التي تعانيها الدولة وخصوصا حيال 3 معضلات: العجز في الموازنة، وفي الميزان التجاري وميزان المدفوعات، وتاليا فإنه مهما حصّلت الدولة ايرادات، وإن كانت حاليا تحصّل بنسب جيدة مقارنة مع السابق، فإن مصروفها يبقى أكثر.
احتياجات الدولة كبيرة بالدولار، ويعمل مصرف لبنان على تأمينها شيئا فشيئا وليس دفعة واحدة. فإمكانات “المركزي” بالدولار محدودة، فيما همّه أن يوازن بين شراء الدولارات والتحقق من مصدرها، والحدّ من ضخ الليرات التي تحصّلها الدولة في السوق دفعة واحدة بما يسبب خللا في الكتلة النقدية ستؤدي الى رفع سعر الصرف، خصوصا أنه سيتم تحويل هذه الليرات الى دولارات بما يضغط على سعر صرف. ولكن في المقابل، في حال أرادت الدولة أن تقنّن في ضخ الليرات فستقع في مشكلة اضافية، إذ ستصل الى مرحلة عجز حقيقي، خصوصا أنها ستواجه صعوبة في تلبية احتياجات اداراتها بكمية محدودة من الليرات. هذه المعضلة، وفق مصادر “المركزي”، لا يمكن الخروج منها إلا بتكبير حجم الاقتصاد الذي سيوصلنا حتما الى تقوية المصارف وتعزيز دورها، وتاليا تعزيز ثقة المودع بها، وهذا لن يحصل ما لم تقر القوانين الاصلاحية.
لا تخفي مصادر الحاكمية أن “المركزي” يعمل على اعتماد سياسة توازن جديدة، فهو عندما يشتري الدولار من السوق، يضع لدى المصرف الذي يشتري عبره الدولار anti money laundering officer لمراقبة مصدر الدولارات، بما يؤدي تدريجا الى خلق “كونترول” حقيقي على “الكاش ايكونومي”، وتطبيق مكافحة تبييض الأموال من خلال المصرف، على أن يصبح هذا الامر فعالا أكثر مع بدء عمل منصة “بلومبرغ”.
ما مصير الدولار بعد أيلول؟ يحاول مصرف لبنان ضبط سعر النقد، والمحافظة على الاستقرار النقدي عبر ضبط الكتلة النقدية، ولكن الامر متوقف على الدولة ومدى قدرتها على ضبط ضخ السيولة من ايراداتها. فما دامت الكتلة النقدية مضبوطة، ثمة اطمئنان الى سعر الصرف، مع الاخذ في الاعتبار أنه تم تجاوز الكثير من المطبات السياسية والامنية في الفترة الاخيرة (عين الحلوة والكحالة وبيانات السفارات). ولكن هل يمكن البناء على هذا الامر للقول إننا وصلنا الى مرحلة الاستقرار النقدي وبناء الاقتصاد؟ تؤكد المصادر أن “الحلول الموقتة لم تعد مقبولة، فيما يستمر السياسيون في اتباع سياسة الوهم، فهم يعوّلون على المظاهر الاقتصادية ومنها الحركة السياحية للقول إن الحركة الاقتصادية في أحسن احوالها. لكن هذه الحركة تقتصر على نسبة محددة من اللبنانيين، فماذا عن النسبة المتبقية؟”.
واذا كانت الحاكمية تتبع حاليا سياسة مختلفة نوعا ما عن السابق، بيد ان سياسة الدعم التي اتبعتها حكومة حسان دياب لا تزال عالقة في الاذهان ويتم تحميل مصرف لبنان ومجلسه المركزي في تلك الفترة المسؤولية الأكبر، إذ كان الأجدى بنواب الحاكم رفع الصوت عاليا للمطالبة بوقف الدعم، بدل الاكتفاء بمراسلة وزير المال. وتشير المصادر الى أن المادة 151 من قانون النقد والتسليف، تحتم “على كل شخص ينتمي او كان انتمى الى المصرف المركزي، بأي صفة كانت، ان يكتم السر المُنشأ بقانون 3 ايلول سنة 1956، ويشمل المعلومات والوقائع التي تتعلق ليس فقط بزبائن المصرف المركزي والمصارف والمؤسسات المالية، وانما ايضا بجميع المؤسسات المذكورة نفسها والتي يكون اطلع عليها بانتمائه الى المصرف المركزي”. لذا لم يكن في الامكان إلا مراسلة وزارة المال، وقد فعلوا ذلك أكثر من مرة، ولمّا لم يتوصلوا الى نتيجة، عمدوا الى مراسلة الحكومة، ومن ثم اشتكوا بواسطة الحاكم ووزير المال والحكومة على وزير المال والحاكم والحكومة وتم ابلغاهم أنه يتم التصرف بأموال المودعين. توازياً جرى التواصل مع وسائل الاعلام بشكل غير مباشر للاضاءة على الارقام التي تُصرف على الدعم، علما أن المجلس المركزي كان يدرك أن الحاكم السابق كان يتعرض لضغوط سياسية، ولكنه لم يكن ملزما بتلبية طلبات الحكومة، خصوصا اذا كان الأمر يتعلق بأموال المودعين.
وإذ تكشف المصادر أن الدعم توقف من مصرف لبنان بدءا من اول آب، حتى بالنسبة الى الدواء الذي بات يُدعم من أموال الدولة، تؤكد أن الحكومة تتعاون كثيرا، فهي مدركة لحجم المشكلة، وكذلك تفعل وزارة المال في موضوع سحب الكتلة النقدية من السوق.
لا تزال مصادر الحاكمية مقتنعة بأن اعادة اموال المودعين ليست مهمة مستحيلة، ولكن ذلك لا يعني أن الاموال جاهزة لسحبها. المقصود أنه “في حال اعدّت خطة سليمة يمكن من خلالها اعادة الودائع، مع التأكيد أن المودعين نوعان: المودعون عموما والاستثناءات. فثمة مودعون يراقبون اسعار الفوائد في الدول كافة، فيعملون على استثمار ولو 1% من اموالهم في ايداعات بالمصارف مقابل فوائد مرتفعة. وهذه النسبة يمكن ان تدر عليهم أموالا أكثر مما تدره الـ 99% من استثماراتهم المتبقية. وتاليا في حال خسر هؤلاء اموالهم، فإن مصرف لبنان غير مضطر للتعويض عليهم، على اعتبار انهم يدركون أصلا المخاطر التي يمكن ان يقعوا فيها. كذلك الحال بالنسبة الى الذين اقترضوا ملايين الدولارات وسددوها عندما انهار سعر الصرف بمبالغ صغيرة جدا، فهؤلاء وظفوا أموالهم بمشاريع لا تزال قائمة وتدر عليهم ارباحا، وتاليا يرى مصرف لبنان “إمكان فرض ضريبة معينة عليهم، أو على الاقل اجبارهم على رد نسبة معينة من الاموال التي اقترضوها”.