في موضوع حِفظ الأحداث، يَعجز الكثير من الناس عن التمييز بين التاريخ والذاكرة. أمّا التاريخ فهو مجموع الأحداث التي حصلت ضمن حقبة معيّنة في الماضي، تتم كتابتها بأسلوب متجرّد، قدر الإمكان، بعيدًا عن التقييم وإصدار الأحكام. وأمّا الذاكرة فهي ما يتمّ تخزينه من الأحداث في الوجدان، الفردي أو الجماعي، مصحوبًا بكلّ الأحكام والقراءات والأحاسيس السلبيّة أو الإيجابيّة التي خلّفتها تلك الأحداث وطبعتها في ذاكرة صاحبها.
المشكلة تحصل عندما يتمّ الدمج بين الذاكرة والتاريخ، لتصبح الذاكرة هي التاريخ، عندها يبتعد قارئ التاريخ عن الموضوعيّة ويُبحر في الشخصانيّة، أفرديّة كانت هذه الذاكرة أم جماعيّة. أمّا والحال هذه، وإذا اتت قراءته للتاريخ بهدف البرهنة عن صوابيّة خيار ما، أو تأكًيدا لحقّ ما ضدّ خصم آخر، وإن كان هذا الآخر قد بُليَ بدوره أيضًا بعدم التمييز بين الذاكرة والتاريخ، فهنا الكارثة حتميّة. إذ يصبح الحوار عندها بين الطرفين حوارًا أصمًّا، فيه يتمسّك كلّ طرف بقراءته للتاريخ كما هو مطبوع في ذاكرته لا كما تجسّد أحداثًا في أرض الواقع، ولا ينتج عن المواجهة سوى مزيدٍ من البعد والفُرقة بينهما، قد تصل حدّ العنف والاقتتال.
هذا لأن لكلٍّ منا ذاكرة، كما لكلّ جماعة ذاكرة كوّنتها أحداث مرّت بها وعاشتها في التاريخ وتركت آثارها السلبيّة والإيجابيّة في ذاكرة أفراد هذه الجماعة. وتحيا هذه الذاكرة عبر مرور الزمن بإعادة استحضار الأحداث لتذكّرها ضمن احتفالات ذات طابع ديني أو اجتماعي أو سياسي، بهدف تخليدها. خذ مثلًا حرق اليهود على يد النازيّين وإبادة الأرمن على يد الأتراك. لا زال الشعبان يعيدان في كلّ سنة ذكرى حصول المأساة التي حصلت معهما، وأصبح الخوف من تكرار هكذا مأساة عاملًا مهمًّا في قراءة هذه الشعوب للتاريخ وفي خياراتها السياسيّة الاجتماعيّة. خوف اليهود من تكرار المأساة دفعهم لإقامة دولة لليهود، وخوف الأرمن جعلهم يتقوقعون في كنتونات أرمنيّة في البلدان التي نزحوا إليها، كما في لبنان مثلًا، مع كره دائم وعميق للأتراك.
حال الأرمن في لبنان هي حال كلّ الطوائف المكونة لهذا البلد الصغير. كل جماعة تخاف من تكرار حدث حصل لها في التاريخ وحفظ في ذاكرتها الفرديّة، وهي تقوم ببناء خياراتها على هذه الذاكرة. المسيحيّون خائفون من العودة للذميّة. تعرّض المسيحيّون في سوريا ولبنان لأشدّ أنواع الاضطّهاد من المسلمين بدءًا بالأحكام العُمريّة وصولًا إلى مذابح ١٨٦٠ وغيرها. الشيعة خائفون من العودة للتهميش ومن البطش الإسرائيلي الذي حصل لهم في الجنوب. السنّة خائفون من الفتنة السنيّة الشيعيّة، والخلاف بينهما تاريخيّ يعود إلى ١٤٠٠ سنة مضت من حادثة مقتل الحسين. الدروز خائفون من الاضمحلال، هم كانوا أمراء وأسياد لبنان، أصبحوا اليوم أقليّة فيه. هذا ناهيك عن ذكر الفظائع خلال الحرب اللبنانية ١٩٧٥ – ١٩٩٠ الباقية والمطبوعة في الذاكرة الفرديّة لكلّ من المكونات اللبنانيّة ، جعلهم في خوف من بعضهم البعض.
إذًا عندما يرفض الشيعة إلقاء سلاحم بحجّة ردع إسرائيل، هم لا ينطلقون من قراءة التاريخ بل من الذاكرة، وعندما يطالب المسيحيّون بالفدراليّة أو التقسيم، هم أيضًا ينطلقون من الذاكرة، وعندما يطالب السنّة بالحفاظ على الطائف، هم أيضًا ينطلقون من الذاكرة وهكذا دواليك.
السؤال الأساس كيف يستقيم حوار أو عيش بين جماعات متمترسة خلف مخاوف (محقّة) رُسمت في ذاكرتها وكوَّنت جدرانًا عالية تفصلها عن بعضها البعض؟
هكذا حوار وإن حصل سيفشل، لأنّه حوار أصمّ، ولن يؤدّي إلّا إلى الصراع من جديد ما لم نقرأ التاريخ بتجرّد للتعلّم من أحداثه وتجنّب مآسيه ولفهم الحاضر والتدبّر بشأنه.
إدمون بخاش