كان يمكن للضبّاط الأتراك الذين قبضوا على سلطة بلادهم مطلع القرن الماضي أن يبقوا على الحياد عندما اندلعت الحرب العالميّة الأولى؛ أو أن يخوضوها الى جانب الحلفاء. ولكنّهم قرّروا المراهنة على ألمانيا، وصولا الى هزيمة تركيا عام 1918، وانهيار السلطنة.

كان يمكن لاحقا للحكم الفيصلي بالشام أن يتفاهم مع باريس. ولكنّ العلاقة بينه وبين حكومة كليمنصو تدهورت، وصولا الى هزيمة ميسلون عام 1920.

كان يمكن بعدها لناصر ألّا يدفع المواجهة مع الولايات المتّحدة قدما في الستّينات. وكانت واشنطن أنقذت ناصر من ورطته بسيناء عام 1956، وأمّنت حاجة مصر من القمح بأسعار تفضيليّة لسنوات لاحقة. ولكنّ ناصرا اختار المواجهة، حتّى اقتنع ليندون جونسون بأنّ مساعدة مصر اقتصاديّا تعني عمليّا أن تموّل واشنطن سياسات معاداة الغرب بالشرق الأوسط، خصوصا بعدما اصطدمت القاهرة بالسعوديّة، وبريطانيا، في اليمن. هكذا تدهورت العلاقات المصريّة – الأميركيّة، وصولا الى 1967.

كان يمكن لصدّام حسين ألّا يجتاح الكويت. ولكنّه اجتاحها وصولا الى “عاصفة الصحراء” وأمّ الهزائم عام 1991.

أخيرا، كان يمكن ل”حماس” ألّا تورّط أهل غزّة بالمحرقة التي تدور رحاها منذ أسابيع. ولكنّها ورّطتها؛ والنتيجة ماثلة للعيان.

بالشكل، لا شيء يجمع بين “الاتّحاد والترقّي” التركية العلمانيّة، و”حماس” العربيّة الاسلاميّة؛ أو بين فيصل المؤيّد للانكليز، وناصر الذي كرههم. بالجوهر، هناك رابط بين خيارات الحكّام السنّة المذكورة أعلاه، وكلّها مفصليّة بحياة المنطقة: 1) حرّك الصدام بالغرب كلّ هذه الخيارات، سواء كان الصدام مباشرا (الحرب العالميّة الأولى؛ ميسلون؛ حرب الكويت)؛ أو غير مباشر (حرب الأيّام الستّة؛ حرب غزّة). 2) اتّخذت كلّ هذه الخيارات بجوّ من الحماسة الشعبيّة المؤيّدة لها بين الجماهير العربيّة، خصوصا بحالة فيصل، وناصر، و”حماس”. 3) كلّها انتهت بهزائم مذلّة ومكلفة أضعفت السنّة بالمنطقة، وقوّت سواهم عليهم.

بالحقيقة، يكاد يكون الصدام مع الغرب ثمن المشروعيّة الشعبيّة في عالم الاسلام السنّي. ولا يعني هذا أنّ المنطقة خلت من الحكّام السنّة من ذوي الأهواء الغربيّة: فكرّ مثلا بالملك حسين في الأردن، أو بأنور السادات في مصر. ولكنّ شعبيّة هذا النوع من الحكّام السنّة بقيت ضعيفة ببلادهم، ومعدومة بالمحيط. بالمقابل، سرق عبد الناصر قلوب الجماهير، قبل أن يصير “أبو عبيدة”، المتحدّث العسكري باسم “حماس”، “الناطق باسم الأمّة”، بحسب الصور الشهيرة له التي ارتفعت مؤخرّا بأحياء سنيّة مختلفة بلبنان.

والحال أنّ وضع سنّة المشرق ليس على ما يرام، كما يبدو من ركام مدنهم المهدّمة في غزّة، وحمص، وحماة، وحلب، وصولا الى الموصل. دمشق عاصمة بني أميّة؛ ولكنّ أخبار تحولّاتها الديموغرافيّة لا تسرّ، من وجهة نظر سنيّة، والأمر عينه صحيح عن الموصل. وقد باتت المعادلة التالية واضحة منذ عقود: بمقدار ما يصطدم زعماء السنّة بالغرب، بمقدار ما تتراكم هزائمهم. وبمقدار ما يحصل ذلك، بمقدار ما تتعاظم النقمة السنيّة، ما يمهّد الخلفيّة النفسيّة لظهور مغامر جديد يكسب قلوب السنّة بتحدّي الغرب، وينحرهم بآن. هكذا هي الحلقة المقفلة منذ انهيار السلطنة العثمانيّة الى حرب غزّة.

آبه بالأمر من وجهة نظر مصلحيّة خالصة: ثبت عمليّا أنّ البديل عن الحكم السنّي أسوأ منه بكثير. نوري السعيد بالأمس خير من “الحشد الشعبي” اليوم بالعراق. ناظم القدسي – وعموم أعيان حزب الشعب في حلب – أفضل بكثير من الحكم العلوي المستمرّ منذ العام 1963. ورفيق الحريري بالتأكيد أفضل من حسن نصراللّه. آبه، بمعنى آخر، لأنّ الطبيعة تكره الفراغ؛ ولأنّ من ملأ ويملأ الفراغ السنّي في المنطقة يسرّع رحيل المسيحيّين منها.

في ما مضى، قدّم الحبيب بورقيبة خيارات مختلفة لمقاربة العلاقات الدوليّة، ودور المنطقة بالعالم. لم يستمع له كثر بالقدس – وكانت تحت السيادة الأردنيّة – عام 1965 يوم طالب بالعقلانيّة بديلا عن الحماسة الخطابيّة في مقاربة الصراع العربي – الاسرائيلي، وفهم العالم المحيط بالعرب. كلّ كلمة بخطابه الشهير بنيسان ذلك العام ثبت لاحقا صوابها؛ ولكنّ أحمد الشقيري ردّ على بورقيبة بالطلب من جامعة الدول العربيّة فصل تونس منها. واليوم، يبدو لي أنّ هجوم “حماس” موجّه ضد سياسة محمّد بن سلمان بالمنطقة، بقدر ما هو موجّه ضدّ اسرائيل. بن سلمان يتحدّث عن الاقتصاد، والتنمية، والتكنولوجيا؛ و”أبو عبيدة” يتحرّك على موجة كراهية اليهود، والغرب، و”الجهاد” ضدّ الاثنين. والحال أنّ السنّة جرّبوا خيارات “أبو عبيدة” بدل المرّة عشرة. حصادهم معها حصاد مئة عام من الهزائم المتلاحقة. البديل عنها، وهو نقيضها، خير لهم، وللمنطقة.

الكاتب: هشام بو ناصيف