لا غنى عن الترحيب الدائم بأي «قمة روحية» رغم أنّ النتائج لا تقدّم ولا تؤخّر في ما كُتب للبنان من أحداث وورطات. وإذ إنّ بكركي والمجلس الشيعي هما قطبا اللقاء كونهما يمثلان المشروعين المتناقضين المعبّرين عن جوهر الخلاف في لبنان، فإنه يبقى على مفتي الجمهورية وشيخ العقل القول «لا حول ولا قوة إلا بالله»، ثم تزيين البيان الختامي بالتمنيات قبل الأعياد.
حقيقة الأمر أن التطاول على شخص البطريرك الراعي، والذي استدعى زيارة الشيخ علي الخطيب للصرح، ليس إلا ظاهر جبل الجليد. فالبطريرك مستهدَف تحديداً لما تمثّله بكركي من قناعات وطنية ولمحاولتها تحفيز رأي عام محلي وخارجي لمصلحة استعادة الدولة السيدة، وحملَ مشروع انقاذي يسعى الى إنهاء استرهان لبنان. أما الهجمات المضادة فهي من الطينة نفسها، كون الشيخ الخطيب هو عملياً ناطق باسم «حزب الله» مُطعّمٌ بنكهة عين التينة البارعة في استدراك قذاعة التعبير، لكن بعد بلوغه مبتغاه.
سواء حصلت القمة الروحية أم لا، فإنّ الأحداث التي تعصف بلبنان ومبادرة «حزب الله» الى المشاركة الميدانية في حرب غزة، تفرض ما يتجاوز التضامن مع الفلسطينيين والتعاطف مع أهالي ضحايا «المشاغلة» عند الحدود، الى التفكير الجدي في مستقبل لبنان وقدرة نظامه السياسي على الاستمرار في ظل الاستفراد المتمادي بقرار السلم والحرب وغياب الدولة بفعل التواطؤ أو التخاذل والاستسلام.
بقمة روحية أو من دونها، كل التطورات توجب أن يتجدّد طرح البطريرك لمشروع «الحياد». وهو كان ظهّره إبان «ثورة 17 تشرين» التي قمعتها الأطراف نفسها التي تخوض في الجنوب معركة محور ايران، ثم خَبا لغياب الرافعة المحلية الواسعة وعدم نضوج ظروف دولية تساعد على تبنّيه، لكنه اليوم صار ضرورة بعدما أثبت تسلسل الأحداث المؤلمة منذ قيام «الجمهورية الثانية» حتى الساعة أنّ إمساك العصا من وسطها لا يوصِل الى «كلمة سواء». فاللبنانيون اختبروا كيف يجري الانقلاب على النظام الديموقراطي بقوة الأمر الواقع، وكيف أنّ تعطيل عمل المؤسسات لم يقوّض الاقتصاد والأمن والقضاء وتداول السلطة فحسب، بل أتاح أيضاً تسونامي النزوح السوري الذي يقلب التوازنات الديموغرافية والطائفية في البلاد.
يأتي السكوت عن ضرب القرار 1701 في رأس خطايا مَن يدّعي الانتصار لفلسطين ولبنان هذه الأيام. ففي ظل الشعبوية المغامِرة والمزايدات يخسر اللبنانيون ورقة الشرعية الدولية في وقت تتداول الأروقة الأممية صيغة شبيهة بهذا القرار تفصل غزة والضفة عن اسرائيل، وستكون – إن تحققت – حلمَ الفلسطينيين الأقصى بعد «طوفان الأقصى».
ليس لدى البطريرك الراعي سوى الموقف الواضح يعرضه للشيخ الخطيب والقمة الروحية في ما لو حصلت. فلا هو يملك جيشاً الكترونياً ليأمره بالانسحاب ولا بكركي تخفي أجندات. مطلب استعادة الدولة سيادتها وتفعيل المؤسسات الدستورية معروف، غير أنه، بعد تطورات الجنوب التي أباحت الحدود وشرعنت لكل الأصوليات تشكيل «المقاومات»، يوجب التلازم مع عنوان «الحياد». لم يعد ممكناً استنساخ «قواعد الاشتباك» السابقة على 7 أكتوبر، ولا «الثلاثية» المفروضة على البيانات الوزارية، ولا حتى «استراتيجية دفاع» تلعب على الوقت لتمكين الهيمنة وإرغام اللبنانيين على نسيان لبنان… الذي كان.
الكاتب: بشارة شربل