ليس كلّ من يعتمد مقاربة صارمة للقضايا السوسيوثقافية والسياسية الشائكة هو متطرّف، وليس كلّ من يسعى إلى حلول جذرية تُعالج غَور المعضلات المطروحة بأبعادها المتعدّدة هو «إنعزاليّ». التيّارات والأحزاب اليمينية الفاعِلة التي تجتاح دول «الشعوب الحرّة» كالنار في الهشيم أخيراً، هي نتاج تراكمات وتغييرات طالت «البنى التحتية»، أي المجتمع، وبالتالي بدأت تُعبّر عن نفسها وتُترجم خياراتها في «البنى الفوقية»، أي السلطة. والتحوّلات المجتمعية العميقة التي تعصف بأوروبا تحديداً، ما زالت في بداياتها.
تنحو الشعوب الأوروبّية باطراد نحو «اليمين الحازم» خوفاً من «المسار الأعوج» المعتمد و»المصير السوداوي» المنتظر. وهذا «اليمين» يُحقّق انتصارات تاريخية مذهلة تحت عنوانَين «وجوديَّين» محوريَّين: الهجرة والجريمة، خلافاً لما حصل في الأرجنتين حيث صوّت المقترعون الغاضبون من التضخّم المفرط لتغيير «النهج الاقتصادي» السائد بشكل أساسي، بتفضيلهم المرشّح اليميني «الشعبوي» خافيير ميلي على حساب «الوسطي» سيرخيو ماسا الذي تولّى حقيبة الاقتصاد لمدّة 16 شهراً في حكومة «يسار الوسط»، فدفع الثمن غالياً «يوم الحساب» في الجولة الرئاسية الثانية.
«الشعوب الحرّة»، وأعني بها المجتمعات «المتظلّلة» بأنظمة ديموقراطية – ليبرالية هي «محصول» تطوّر فكرها السياسي، والتي تسعى إلى الحفاظ على «هويّتها التاريخية» وترفض رفضاً قاطعاً التضحية بحرّياتها وأمنها ورفاهيّتها، خصوصاً مع تقلّص حجم الطبقة الوسطى لديها، تحت «مقصلة» الشعارات الديماغوجية الهدّامة لسياسة «الأبواب المفتوحة» التي «تُشرعِن» الهجرة غير الشرعية أو تلك العشوائيّة ولو اتّخذت صفة الشرعيّة، مع كلّ ما تحمله هذه «الديموغرافيا الغريبة» من عقائد وشرائع وقيم وتقاليد وأفكار مُتعارضة، بل متناقضة تناقضاً مرعباً مع أبسط «ثوابت ومسلّمات» المجتمعات المُضيفة، الأمر الذي يُهدّد بتفجير «عقدها الاجتماعي» برمّته وإدخالها في دوّامة الحروب الأهلية.
«موجات تسونامي» الهجرة التي طفت معها مخاوف من تحقُّق نظرية «الاستبدال العظيم»، ارتبطت كذلك ارتباطاً وثيقاً بارتفاع معدّلات الجريمة على أشكالها وأنواعها، ولا سيّما «الهجمات الإرهابية» الملتصقة بـ»الأصولية الإسلامية»، و»الجريمة المنظّمة» المتّصلة بـ»كارتيلات المخدّرات»، التي تُهدّد بلداناً كبلجيكا وهولندا والسويد وغيرها. «الهويّة والحرّية والأمن» غدت «القلب النابض» الذي يمدّ شريحة واسعة من الرأي العام بـ»الدماء السياسية» التي تُكوّن رؤيتها وتُحدّد وجهتها وتجعلها تنحاز نحو «اليمين» في «الأزمنة البائسة».
لاحظ باحثون اجتماعيون تبدّل اصطفافات الكثير من الناشطين السياسيين في أوروبا خلال العقود الأخيرة، من اليسار إلى أقصى اليمين، فكان لافتاً بالنسبة إليهم أن يُصادفوا أكاديميّاً اشتراكيّاً مرموقاً أو مناضلاً بيئيّاً ملتزماً، أضحى قياديّاً في حزب «التجمّع الوطني» في فرنسا أو حزب «البديل من أجل ألمانيا» أو غيرهما من الأحزاب اليمينية الحازمة في مختلف الدول الأوروبّية. وانطلقوا من هذه المؤشّرات المتنامية مع الوقت، ليُحسنوا قراءة المتغيّرات الطارئة والبناء على أساسها لمعرفة ما ستؤول إليه الأمور في بلدانهم مستقبلاً.
آخر انتصارات «اليمين الحازم» المدوّية سُجّلت في هولندا، حيث حصد حزب «الحرّية» بقيادة غيرت فيلدرز 37 مقعداً في البرلمان المؤلّف من 150 مقعداً، ليتصدّر ترتيب الكتل يليه تحالف اليسار – البيئيين بـ25 مقعداً وحزب رئيس الوزراء اليميني مارك روته بـ24 مقعداً. وهولندا ليست أوّل دولة تُحدث «زلزالاً» انتخابيّاً يمينيّاً على «الخارطة الأوروبّية»، فقد سبقتها دول عدّة من شرق أوروبا ووسطها إلى شمالها وجنوبها، كانت أبرزها إيطاليا التي تترأس حكومتها الإئتلافية حاليّاً «أيقونة» اليمين المسيحي المُحافظ جورجيا ميلوني.
وميلوني، زعيمة حزب «إخوة إيطاليا»، تربّعت على «عرش روما» بناءً على وعدها بخفض «الهجرة الجماعية» إلى سواحل شبه الجزيرة الإيطالية، وهو الإلتزام – التحدّي المصمّمة على تحقيقه رغم الصعاب التي تواجه أجندتها وتعرقل بعض خططها. وقبل انتزاعها الفوز الذي صَدم بروكسل، اتُّهمت ميلوني بأنّها ستكون «خليفة» الديكتاتور بينيتو موسوليني، بيد أنّها تُعتبر اليوم من أكثر «القادة العقلاء» في أوروبا في السياستين الداخلية والخارجية، على حدّ سواء.
الاتحاد الأوروبي سيَعتاد تلقي «الصدمات الانتخابية» مع توقّع توالي الانتصارات اليمينية على طول «القارة المتجدّدة» وعرضها، خصوصاً بتحقيق «اليمين الحازم» تقدّماً شعبيّاً ملحوظاً في أكبر عضوَين في الاتحاد، أي ألمانيا وفرنسا. ولا يستبعد مراقبون أن يسكن «المستشارية» وقصر «الإليزيه»، في المدى المنظور، قيادات يمينيّة صارمة تُساهم في إعادة إحياء «هويّة» بلدانها الحقيقية وترسيخها، ورسم «الوجه الجديد» لأوروبا أكثر حضوراً وقوّة على الساحة الدولية المضطربة.
الكاتب: جوزيف حبيب