يكرّر الوزير جبران باسيل معزوفة أنّ الوقوف الى جانب الحزب الخميني المسلّح ضروري بالمرحلة الحاليّة باعتبار أنّ ذلك تضامن “مع اللبناني ضدّ الاسرائيلي” كما يزعم. تأتي هذه النغمة الجديدة بعد خرافة سابقة كان باسيل دأب على ترويجها مفادها أنّه يفصل بين وظيفة الخمينيّين “المقاومة”، وسياساتهم بالداخل، بمعنى أنّه يميّز بين الدور الذي يلعبه الخمينيّون على الحدود اللبنانيّة مع اسرائيل، ودورهم ببيروت. والحال أنّ هذا المنطق، كما ذاك، لا يعدو أن يكون تزويرا لحقائق لبنانيّة أساسيّة، هذه بعضها.
أوّلا، ما يجري بالجنوب اليوم ليس حربا بين “اللبناني والاسرائيلي”، كما يزعم جبران باسيل، بل مواجهة بالواسطة بين ايران واسرائيل، تقارع فيها الأولى الثانية عبر بيادقها العديدة بالمنطقة، ومنهم خمينيّو لبنان. للتذكير: مصر معنيّة بشكل مباشر بعد أكثر من لبنان بأحداث غزّة، ولكنّ أحدا لا يطلق الصواريخ من سيناء باتّجاه الداخل الاسرائيلي. ذلك أنّ مصر دول سيّدة، في حين أنّ البيئة الكريمة الممانعة بلبنان قبلت بتحويله الى فلك يدور بسماء ملالي ايران، مقابل سيطرتها عليه. والحال أنّ هدف الملالي الدائم من مشاغلة اسرائيل تقوية نظامهم المكروه بالداخل بحجّة انّه يقارع الغرب والاستعمار. أمّا هدف امتداداتهم المحليّة بلبنان فهو تحويل الحرب الى فرصة تثبّت قبضتهم عليه، بدءا بتنصيب رئيس جمهوريّة تابع لهم تماما، كما سيكون سليمان فرنجيّة بالضرورة لو انتخب. هذا جوهر الأمور وحقيقة ما يجري. ولو أنّ لبنان يحارب، لوجب فعلا الوقوف الى جانب بلادنا ولو ضدّ العالم أجمع. باستثناء، طبعا، أنّ بلادنا لا تحارب، بل يحارب الملالي بها.
ثانيا، لا يمكن الفصل بين الوظيفة “المقاومة” للخمينيّين المسلّحين، وسياساتهم بالداخل اللبناني. ذلك أنّ سلاحهم أداة من أدوات سياساتهم، وهو، كما هي، بخدمة هدف استراتيجي هو تعزيز الدولة الشيعيّة بلبنان، وتوسيعها على أكبر رقعة ممكنة من جغرافيّته، على حساب باقي المكوّنات التي يتمّ كسرها الواحدة تلو الأخرى بالصدامات العسكريّة، والاغتيالات السياسيّة، والتخوين اليومي، والترهيب الدائم. قبل عقد، خدعت الدعاية الباسيليّة قسما من المسيحيّين بزعم الوقوف الى جانب حزب اللّه باعتبار أنّه يقاتل الأصوليّين السنّة، دع عنك أنّ العنف غير المعقول الذي مارسه المحور الايراني ضدّ أهل السنّة بطول المشرق وعرضه سعّر مباشرة نار التطرّف السنّي فيه. ومنذ خمدت الحرب السوريّة، وخبت داعش، يستمرّ خداع المسيحيّين بحجّة أنّ الفصل ممكن بين الدور العسكري ل”المقاومة” على الحدود، ودورها السياسي بالداخل، وهذا نفاق تامّ.
يحصل كلّ هذا بينما صار فريق باسيل متخصّصا بتخريج أسوأ أبواق ذميّة شهدتها الساحة المسيحيّة بتاريخها المعاصر. أتحدّث هنا عن أسماء كمنصور فاضل، ورودني حدّاد، ورندلى جبّور، ويوسف حدّاد، وجوزف البجّاني، وميشال الفتريادس، وآخرين. هؤلاء كانوا مجهولين قبل أن يقدّم باسيل رافعة لهم حوّلتهم نجوما وصنّاعا للرأي العام. واذ بهم يتحرّكون كأبواق يوميّة بخدمة البروباغاندا الممانعة. باسيل مسؤول مباشرة عمّا يقترفه هؤلاء، وبعضهم أعضاء أو قياديّون بحزبه.
يفاقم كلّ ما سبق تخرّصات يكتبها باسيل من نوع أنّه مع التحييد “وليس الحياد” باعتبار أنّه لا ينبغي فكّ التزامات لبنان ب”قضايا المنطقة”. أوّلا، لا يوجد شيء بالقانون الدولي العام يدعى “تحييد”. وامّا أن يكون أيّ بلد محايدا–ويحقّ له تاليا مطالبة المجتمع الدولي باحترام حياده وحمايته–أو لا يكون. الأمور بهذا الوضوح. “التحييد” واحد من الفذلكات اللبنانيّة العديدة–على شاكلة أنّ لبنان “ذو وجه عربي”– التي لا يعلم أحد ماذا تعني تحديدا، لسبب بسيط انّها لا تعني شيئا. استطرادا، وبوضوح: مسيحيّو لبنان غير مقتنعين ب”قضايا” حضارة تكرههم، ولم تعاملهم يوما–ولن تعاملهم–الّا كذميّين بعقر دارهم. لبنان قضيّة المسيحيّين الوحيدة، وكلّ ما سوى ذلك مسائل أجنبيّة. تاليا، أمّا وأنّ لبنان هو جوهر القضيّة، فالحياد عنوانها الأوّل، كي لا تبقى بلادنا ساحة حروب المنطقة وصراعاتها. تعاطي المسيحيّين اللبنانيّين مع الآخرين ينبغي أن يكون شديد الوضوح: امّا يقبل الجميع بالحياد؛ أو فليحكم كلّ مكوّن نفسه بنفسه، ويتحمّل هو لا سواه تبعات خياراته بالسياسة الخارجيّة. وبشكل أوضح بعد: حياد لبنان التامّ والنهائي ينبغي أن يكون شرط الشراكة الوطنيّة. والردّ الاستراتيجي على رفض الحياد ينبغي أن يكون شكلا من أشكال فضّ الشراكة. الكلام عن “التحييد” كبديل عن الحياد نفاق تامّ، فضلا عن انّه استسلام مفضوح للهويّات الطائفيّة العابرة للحدود، التي خرّبت لبنان منذ كان، ولم تجلب له يوما سوى الكوارث المتناسلة، آخرها سيطرة الملالي الأصوليّين عليه.
بالحقيقة، يزوّر باسيل التاريخ عندما يقترف التويت التالي: “لا أتخلّى عن أيّ منطقة وعن قدرة المسيحي على العيش مع الآخر، ونرفض النموذج الاسرائيلي القائم على الانعزال وهل نسينا عنددما عزلنا نفسنا كيف وصلنا الى هزيمة”. أقول انّ باسيل يزوّر التاريخ لأنّه يصوّر ضحيّة عمليّات التهجير المنهجي بالحرب–من الدامور، الى العيشيّة، والقاع، وصولا طبعا لكبرى جرائم تاريخنا المعاصر، عنيت التطهير الاثني في الجبل، والشحّار، وشرق صيدا، بين 1983 و1985– كمصرّ على “الانعزال”. أي معرفة ولو سطحيّة بسياسة لبنان المعاصرة تفيد بأنّ المسيحيّين اقتلعوا من قراهم بقوّة السلاح الفلسطيني أوّلا، والسوري ثانيا، ولم “ينعزلوا” بقرار ذاتي. استطرادا، الفدراليّة– التي يكرهها باسيل لأنّها مرتبطة بتاريخ القوّات اللبنانيّة–لا تعني التخلّي عن أيّ منطقة، ولا عن “العيش مع الآخر”، بل هي اعادة تنظيم لهذا العيش وفق أسس جديدة أقرب الى الواقع السوسيولوجي اللبناني من النظام المركزي.
سيل مغالطات باسيل…الى متى؟
الكاتب: هشام بو نصيف
المصدر: لبنان الفدرالي