لم تكن الزيارة التي نظّمها الجيش اللبناني أمس للسفراء والملحقين العسكريين إلى جنوب الليطاني مجرّد جولة ميدانية بروتوكولية. كانت رسالة سياسية وأمنية مدروسة، تحمل في رمزيّتها ما يتجاوز الصور والبيانات: الدولة تعود إلى أرضها، والمؤسسة العسكرية تمسك بزمام المبادرة، بلا وسطاء ولا أقنعة.
في الجنوب، حيث اعتاد البعض تحويل الجغرافيا إلى شماعة، فتح الجيش الأبواب على الواقع كما هو. لا استعراض، لا خطابات خشبية، بل فعلٌ هادئ وواثق: هذه هي الأرض، وهذه هي السلطة الشرعية، وهذا هو القرار. من هناك، قال الجيش للمجتمع الدولي إن لبنان لا يحتاج إلى وصاية، بل إلى اعتراف بجهدٍ يُبذل يومًا بعد يوم لتثبيت السيادة وحصر السلاح بيد الدولة.
أهمية الخطوة لا تكمن فقط في مكانها، بل في توقيتها. فالجنوب كان، لسنوات، مساحة مُصادَرة باسم “المقاومة”، فيما الحقيقة أنّ حزب الله صادر الدولة وقراراتها، واحتكر السلاح، وجرّ البلاد إلى حروب بالوكالة. زيارة الجيش كسرت هذا الاحتكار الرمزي، وقدّمت نموذجًا مغايرًا: أمنٌ بلا شعارات، وقوةٌ بلا مزايدات.
الأهم أنّ الجيش لم يَعِد، بل نفّذ. ما يجري جنوب الليطاني ليس إعلان نيات، بل تطبيق عملي لخطة حصر السلاح، خطوة خطوة، بصمت المسؤولين وثبات المؤسسات. هنا تتجلّى قوة الدولة حين تُمارَس، لا حين تُعلَن. وحين يرى السفراء بأعينهم جنودًا ينتشرون، ويضبطون، ويُشرفون، يصبح الكلام عن “خصوصية السلاح” مجرّد ذريعة ساقطة.
هذه الزيارة قالت أيضًا للبنانيين إن الرهان على الجيش ليس عاطفة، بل خيار وطني عقلاني. فالمؤسسة التي صمدت في أسوأ الانهيارات، قادرة اليوم على إعادة رسم معادلة الأمن في الجنوب، بعيدًا عن سلاحٍ غير شرعي أثبت أنّه عبءٌ لا حماية، وخطرٌ لا ضمانة.
جنوب الليطاني، بهذا المعنى، لم يعد ساحةً رمادية. هو مساحة دولة، ومسؤولية جيش، واختبار سيادة. ومن يزعجه هذا المسار، فلأنه يفضل الدويلة على الدولة. أمّا اليوم، فالدولة حضرت… والجيش تقدّم.
