ليس سرّاً أنّ مجلس النواب تحوّل منذ سنوات إلى رهينة مزاجية رئيسه، وإلى ساحة تُعطَّل فيها القوانين وفق حسابات سياسية ضيّقة. ما نشهده اليوم يتجاوز حدود النقاش الدستوري إلى ما يشبه الاستيلاء على مؤسسة تشريعية يفترض أنّها قلب النظام الديموقراطي.
فالتلاعب بجدول الأعمال، شطب القوانين المعجّلة المكرّرة، تجاهل العرائض الموقّعة من أكثريات نيابية، بل وحتى التلاعب بالمحاضر أو إبقاؤها مفتوحة عند الحاجة، كلها ممارسات لم تعد مجرّد خروقات إجرائية، بل أدوات مدروسة لتعطيل الحياة النيابية وربطها بمصالح سلطة لا تريد أن تُحاسَب.
الأخطر أنّ هذا التعطيل يُستخدم اليوم كسلاح في وجه اللبنانيين أنفسهم. فإسقاط حقّ نحو مليون مغترب في المشاركة بالانتخابات، وتعطيل مشروع “الميغاسنتر” الذي يسهّل اقتراع عشرات آلاف المقيمين، ليسا تفصيلاً تقنياً بل قراراً سياسياً هدفه حماية احتكار انتخابي لطرف بعينه، يخشى أن تهتز قواعده إذا توسّعت دائرة المشاركة.
أما التصريحات التي تلوّح بأنّه “إذا لم تُعقد الجلسة اليوم فلا أحد يعرف متى تُعقد”، فهي ليست سوى تهديد مبطّن للنواب والشعب على السواء: مجلس النواب يُدار بالقطعة، وفق توقيت شخصي، لا وفق مقتضيات الدستور. والمفارقة أنّ من كان يترك المحاضر مفتوحة ليعطّل انتخاب رئيس للجمهورية، هو نفسه الذي يستخدم اليوم ختم المحضر وسيلة ابتزاز لإسقاط قوانين إصلاحية. ازدواجية فاقعة تُعرّي النوايا وتكشف أنّ المصلحة وحدها تحكم، لا النصوص ولا الأعراف.
أزمة المجلس ليست أزمة نظام داخلي فحسب، بل أزمة أخلاق سياسية. مؤسسة يُفترض أن تجسّد إرادة الأمة، باتت أسيرة نزوات فردية وتحالفات ظرفية. بينما يطالب اللبنانيون بإصلاحات حقيقية، وبإشراك المغتربين والمقيمين على حد سواء، يُقابَلون بمنظومة لا تزال تتقن لعبة التعطيل وتستثمر في الفراغ.
الخروج من هذا المأزق لا يكون بالشعارات ولا بالتمنيات، بل بإرادة واضحة لكسر حلقة الاحتكار وإعادة الاعتبار إلى البرلمان كمنبر تشريع ورقابة، لا كساحة صفقات وابتزاز. فما لم يتحرّر المجلس من قبضة التعطيل، ستبقى الدولة مجرّد هيكل بلا روح، والإصلاح مجرّد وعد يتلاشى في زحمة المصالح.