كأن اللبناني لم يكتفِ بما نزل عليه من أزمات، حتى وجد نفسه اليوم أمام غلاءٍ ينهش ما تبقّى من قدرته على العيش. أسعار المواد الغذائية عادت إلى التحليق في السوبرماركت، من دون إنذارٍ ولا سببٍ اقتصادي مباشر، وكأن السوق مفتوحة على فوضى بلا سقف ولا ضابط. المواطن يشتري اليوم ما كان يشتريه بالأمس بأسعارٍ أغلى، فيما الدولة غائبة، والرقابة غائبة، والمحاسبة ميتة.

الوقائع لا تحتاج إلى مبالغة: لا رقابة تُذكر على الأسعار، لا على مستوى وزارة الاقتصاد، وكأن حماية المستهلك صارت ترفًا إداريًا. التجار يفعلون ما يشاؤون، يتذرّعون بسعر الصرف حينًا وبالكلفة التشغيلية حينًا آخر، والحقيقة أنّهم وجدوا في غياب الدولة فرصة ذهبية لتحقيق أرباح فاحشة على حساب الناس.

إنّ الحكومة، التي تتذرّع دائمًا بالعجز المالي، تملك على الأقل أدواتٍ رقابية وتشريعية يمكنها أن تحمي المواطن لو أرادت. المطلوب ليس معجزة، بل تفعيل أجهزة الرقابة على التجار لتقوم بواجبها، وإعادة الاعتبار إلى فكرة دولة القانون في السوق. فالتساهل في هذا الملف لا يعني إلا شيئًا واحدًا: أنّ الدولة تخلّت عن أضعف فئاتها وتركتهم فريسة الجشع والاحتكار.

أما السياسات الضريبية، فهي مأساة أخرى. الدولة التي تفرض الضرائب على من يلتزم، وتترك المتهرّبين والمحتكرين يسرحون ويمرحون، تزرع الظلم بدل العدالة. المطلوب سياسات ضريبية علمية لا عشوائية، تُعيد توزيع الأعباء بعدل، وتدعم الإنتاج بدل أن تخنقه، وتخفّف من وطأة الغلاء بدل أن تضاعفه.

المواطن اللبناني لا يطلب المستحيل، بل الحد الأدنى من الإنصاف. يريد أن يشتري حاجاته من دون أن يشعر بالإهانة، وأن يثق بأن هناك دولة تحميه لا تتواطأ ضده.

فمن دون رقابة فعّالة وعدالة ضريبية، لا اقتصاد يمكن أن يقوم، ولا استقرار يمكن أن يصمد.