لم تكن زيارة البابا لاوون الرابع عشر إلى موقع انفجار مرفأ بيروت محطة بروتوكولية عابرة. ما حصل اليوم كان مشهداً عميقاً، مُحمَّلاً بالرمزية، أقرب إلى محكمة معنوية مفتوحة على فاجعة 4 آب. وقف الحبر الأعظم وسط الركام، عند جرحٍ حاول كثيرون دفنه، وصلّى على أرواحٍ لم تجد عدالتها بعد، ثم التقى أهالي الضحايا الذين صاروا، بتعبهم ووجعهم، ضمير لبنان الحيّ.
البابا لم يأتِ ليضع وردة. أتى ليقول شيئاً أكبر بكثير: إن العالم لم ينسَ هذه الجريمة، وإنّ بيروت ليست مدينة يمكن أن تُترك لقدَر الفوضى وسلطة الأمر الواقع. في لحظة الصلاة تلك، بدا كأنه يعيد المرفأ إلى خارطة الوجدان الدولي، ويُخرج القضية من غرفة العتمة التي حاصرها فيها البعض.
حين انحنى البابا أمام أهالي الضحايا، بدا المشهد كأنه لحظة اعتراف عالمي بأن ما يحدث في لبنان ليس “حادثاً عرضياً”، بل مأساة دولة تآكلت مؤسساتها، وقضية حقّ يُحارَب بلا خجل. أعاد إلى الواجهة صوت الضحايا، الصوت الذي حاولت السلطة طحنه عبر المماطلة، ودفنه تحت ركام السياسة والقضاء المعطّل.
رسائل البابا كانت مدوّية. للسلطة، قال بلا كلام إنّ العدالة لا تُقفل بقرار، ولا يُعزل قاضٍ لأنّه اقترب من الحقيقة، فالعالم يرى والبابا وقف اليوم على أرض الجريمة نفسها. وللمجتمع الدولي، ذكّر بأنّ فاجعة المرفأ جرح إنساني لا يمكن تركه لسلطة عاجزة، وأن حماية الحقيقة مسؤولية تتجاوز حدود لبنان. أمّا للبنانيين، فأعاد التأكيد أن بلدهم لم يخرج من دائرة الاهتمام، وأن الذاكرة أقوى من كل محاولات الطمس وأن صوت 4 آب ما زال يرتفع مهما حاولوا خنقه.
الزيارة، ببساطة، أعادت تعريف 4 آب: ليس مجرد انفجار، بل عنوان معركة اللبنانيين مع دولة فقدت أخلاقها. ومع حبر أعظم يقف في المرفأ، ويصلّي ويُطمئن ويدعم، بدا كأن أحداً يعيد إضاءة شمعة فوق الركام، ويقول: “العدالة لا تموت”.
اليوم، بيروت شعرت أنّ أحداً يسمع نبضها. وأنّ طريق الحقيقة، مهما طالت، صار تحت الضوء مجدداً.
