لا يزال الشارع السنّي تحت صدمة اعتزال الرئيس سعد الحريري. بمقدار تعاطفه معه، هو غاضب منه إذ جعل من نفسه ضحية، وأُعدِمَ سياسياً وهو واقف على قدميه.
مذ أعلن الرئيس سعد الحريري اعتزال العمل السياسي، هو وعائلته وتيار المستقبل، في 24 كانون الثاني، يسود الغموض في شارع طائفته. لم تتأخر المراجع السنّية في دحض ما شاع للتو، من أن خطوة الحريري دعوة الى مقاطعة الطائفة، وليس حزبه فحسب، انتخابات أيار المقبل. أول المسارعين الى تقدّم المواجهة مفتي الجمهورية الشيخ عبد اللطيف دريان ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي. في ما قاله ميقاتي، وأثنى عليه دريان، أمام المسجد العمري في 28 كانون الثاني، تأكيد إضافي، قبل أن يُلحق به في الغداة تأكيد ثانٍ لدى استقبال المفتي رئيس الجمهورية ميشال عون في دار الفتوى، للمرة الأولى في ولايته.
منذ اتفاق الطائف، لم يُسجّل على مرّ الرؤساء المتعاقبين زيارة أي منهم للدار، في استعادة لتقليد شاع مع الرئيس فؤاد شهاب، وسار عليه من بعده الرئيس شارل حلو في الستينيات، بأن يزورا دار الفتوى في عيد الفطر، كل سنة، لمعايدة المفتي. بوصول الرئيس رفيق الحريري الى رئاسة الحكومة، حجبت السرايا الى حد بعيد ــــ حدّ الالغاء ــــ المرجعية التقليدية لدار الفتوى. ما لبثت أن سُجلت عام 2006 سابقة غير مألوفة، يوم أمّ المفتي السابق محمد رشيد قباني المصلّين داخل السرايا بذرائع شتى.
مذ قرر الحريري الابن إقفال البيت السياسي لعائلته، انتقلت المرجعية السنّية للفور الى دار الفتوى. ما قاله دريان على مسمع ميقاتي والرئيس فؤاد السنيورة بعد صلاة الجمعة، أرسل إشارة صريحة الى أن صاحب الدار أراد استعادة المرجعية ما إن أوحى اعتزال الحريري بأن الطائفة باتت بلا قائد أو زعيم. قال دريان بامتعاض: «إذا ظنّ أحد أن السنّة رزق سائب يعلّم الناس الحرام، فهو مخطئ أياً يكن. لن نسمح لأحد بالتعامل مع السنّة على أنهم رزق سائب، ولسنا رزقاً سائباً».
دلّت العبارة المكثفة، لكن المقتضبة، على مَن تتوجه إليهم بعدما «فاعوا» ما إن جهر الحريري باعتزاله وترك البلاد: أولهم بهاء الحريري الذي قفز كي يرث شقيقه ويوحي بمقدرته على قيادة الحريرية السياسية ومشروع الأب في إحدى أصعب لحظات ضعف شقيقه الأصغر وإنهاك قدره. أما ثاني الموجّهة إليهم الأصابع، فهو رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع الذي بات يواجه يوماً بعد آخر تصعيداً سنّياً متشدداً منبثقاً من شارع الحريري الابن ضده، لا يخفي الكراهية ومشاعر البغض والرغبة في الانتقام.
غضب المفتي يضاهيه غضب الرئيس السابق للحكومة في ما أُحيط علماً به، في الساعات اللاحقة لاعتزاله. من طريق جهاز أمني لدولة عربية كبرى تسعى الى الاضطلاع بدور دائم حيال السنّة اللبنانيين، تسلّم الحريري شريطاً صوتياً مسرّباً وردت فيه محادثة لجعجع مع مجموعة حزبية لديه، يناقشها في خروج الحريري من المعادلة السياسية، ويستخدم ألفاظاً اكثر ما تعبّر عن ارتياحه للتخلص منه. يضيف جعجع في شريط التسجيل: «نحن نعرف كيف سنأتي بجماعته إلينا، ولدينا وسائلنا». وأضاف: «أعدكم بأنني سآتي بكل واحد من جماعته إلى عندي… سينسونه بعد أيام».
المفارقة أن الحريري البكر وجعجع يلتقيان على محاولة خطف اللحظة السياسية، فإذا هما يقعان في الخطأ الجسيم. كانا بطلَي أول خطأ جسيم رافق 4 تشرين الثاني 2017، عندما احتجز الرئيس السابق للحكومة في الرياض. الأول قفز كي يخلفه في زعامة البيت والتيار فرفضته العائلة، والثاني شجع للفور على قبول استقالة الحكومة التي أدلى بها الحريري من هناك. كلاهما أظهرا يومذاك اهتماماً بالتخلص منه. أما ثاني خطإهما الجسيم فهو قفزهما معاً أخيراً، مصادفة أو بالتزامن المتعمّد، كي يرثا تركته السياسية.
ليس الدور الجديد للمفتي سوى استعادة لدور مماثل اضطلع به البطريرك الراحل مار نصر الله بطرس صفير حيال الانتخابات النيابية، لكن في وجهة معاكسة. خلافاً لحضّ صفير المسيحيين على مقاطعة استحقاق 1992، في ظل الهيمنة السورية، يدعو دريان طائفته الى الإقبال عليها. لا يواجه كالبطريرك الراحل عدواً خارجياً على نحو ما كانت سوريا، بيد أن أصعب ما يجبهه المفتي الحؤول دون تفتيت الطائفة من داخلها ما إن فقدت مرجعيتها السياسية باعتزال الحريري.
ما يحوط بالموقف الذي يجتمع عليه المفتي ورئيس الحكومة، وكلاهما يتنكّبان الدور الذي يمنع تسيّب الرزق، هو الآتي:
1 ــــ رغم الإضاءة الإعلامية والدعائية الفضفاضة على ظهور بهاء في المعادلة السياسية الجديدة، على الأقل كما يودّ أن يوحي، إلا أن المعطيات المتوافرة لدى المرجعيات السنّية المعنية تنفي أيّ دعم سعودي له أو خليجي حتى. ينطلق الرجل من اعتبارَين ليسا قليلَي الاهمية، من دون أن يحتّما بالضرورة وصوله الى كل ما يروم الوصول إليه: ثروته والتناقضات الناشبة داخل العائلة. ليس الجميع فيها جارى سعد في قراره، لكنهم أذعنوا له بدءاً من العمّة بهية الحريري. بذلك يحاول بهاء ملء الفراغ الذي افترض أن الطائفة برمّتها ــــ وليس الحريرية السياسية ولا تيار المستقبل فقط ــــ غرقت فيه.
2 ــــ ليس معروفاً لبهاء مصالح في السعودية على غرار ما كان لأخيه، أو علاقات سياسية وطيدة، أو على صلة بأجهزة استخباراتها. ليس معروفاً عن المملكة إعجابها بشخصيته غير المؤهلة للزعامة وعصبيته وانفعاله، فلم تختره في 25 نيسان 2005 كي يخلف والده الراحل، بل شقيقه الأصغر. بذلك يُفسَّر الموقف السعودي غير المعني بتحرّك بهاء، أنه يريحه ظهور ما لم يسع سعد أن يفعله، وهو إعلان المواجهة مع حزب الله. مغزى هذا الموقف أن الدور الذي يضطلع به بهاء يساعد على التخلص من سعد، بل يسعه أن يكون حجراً إضافياً في الزاوية. أما ما يتجاوز ذلك، فليس مدرجاً في حسبان المملكة: أن يكون بديلاً منه، أو خليفة له. أضف أن أحداً ليس جاهزاً الآن على الأقل كي يكون البديل المحتمل.
يردّد البعض المطّلع أن ما تفكر فيه الرياض ــــ وهي مرجعية تاريخية أساسية دينياً وسياسياً لا غنى عنها لسنّة لبنان مهما تقلّبت الأحوال ــــ حالياً هو صرف النظر عن الزعامة الواحدة في الطائفة التي أحدثها ــــ إن لم يكن فرضها ــــ الحريري الأب منذ عام 1992. من الآن فصاعداً، يقتضي أن يستعيد زعماء المدن السنّية حضورهم وحيثياتهم الشعبية، وإعادة الاعتبار إليهم بعد حجبه عنهم ثلاثة عقود: الزعماء السنّة البيروتيون والطرابلسيون والصيداويون. لكن أيضاً لما عُرف في عقود الأربعينيات والخمسينيات والستينيات عن الزعماء المحليين لعكار والبقاع الغربي.
لا عودة الى ما كان عليه سعد وارثاً لوالده على إثر اغتياله، ولا الى ما فرضه الرئيس الراحل من قبل.
3 ــــ ما يعني المرجعيتين الدينية والسياسية الحاليتين في الطائفة، دريان وميقاتي، عدم السماح بوضع اليد على مقاعد الطائفة في مجلس النواب. لا تزال ماثلة تجربة انتخابات 1992. لم تُبقِ مقاطعة الأحزاب المسيحية الرئيسية حينذاك مقاعد الطائفة شاغرة، بل حلّ في معظمها رجال سوريا وحلفاؤها.
الرزق غير السائب الذي تحدّث عنه المفتي يقضي بعدم الاستيلاء على مقاعدها. هو المحظور الأساسي المتفاهم عليه بأن لا يحدث أي خرق خطير يصعب استيعابه أو تحمّله، كأن يضع حزب الله وقوى 8 آذار يدهم على أكثر من الحصة السنّية التي حازوها في انتخابات 2018، وكانت عشرة نواب. قبل الحريري عزف عن الترشح الرئيس تمام سلام، وبات في حكم المحسوم عدم ترشح السنيورة، بينما لم يفصح رئيس الحكومة بعد عن ترشحه أو اللحاق بشركائه في نادي الرؤساء السابقين للحكومة. ما ليس محظوراً هو توقّع موجة مرشحين سنّة يتهافتون على خوض الانتخابات.
نقولا ناصيف في صحيفة الاخبار