عندما زار هيرمان غورينغ، قائد سلاح الجو النازي، أوكرانيا المحتلة، متفقداً مساحاتها الزراعية وحقولها الشاسعة ومناطقها الصناعية، قال إن على هؤلاء السكان أن يعملوا وينتجوا لصالح ألمانيا حتى الموت (بالمعنى الحرفي للكلمة). كانت أوكرانيا جزءاً من خطة “المجال الحيوي” للرايخ الثالث. فهي لم تكن بنظر ألمانيا النازية سوى سلة غذاء وأرض للاستيطان. الأوكرانيون سيُسخَّرون ويُستعبدون لرفاهية الرايخ الثالث.
قبل أقل من تسع سنوات على غزو أوكرانيا، وهي جزء من الاتحاد السوفياتي، تعرّض الأوكرانيون إلى ما يشبه الإبادة الجماعية فيما بات يُعرف بـ”هولودومور” (القتل بالتجويع). مات من الجوع أكثر من ثلاثة ملايين في بلد يُعتبر سلة خبز أوروبا، بسبب سياسات ستالين وحزبه الشيوعي، الذي أراد أيضاً تسخير خيرات أوكرانيا لصالح اقتصاد الاتحاد السوفياتي.
منذ مطلع الثلاثينات قاد ستالين أيضاً حملة في أوكرانيا أدت إلى ما يطلق عليه الأوكرانيون “النهضة المشنوقة”، أو التطهير الكبير للتخلص من نخبة المجتمع الأوكراني، علماء ومثقفين. محاكمات صورية أودت بالألوف إلى السجن والنفي والإعدام.
إبادة اليهود على يد فرق “أس. أس” الهتلرية بدأت أولاً في أوكرانيا، أو ما يُعرف بـ”هولوكوست الرصاص”: خنادق ضخمة يُحشد فيها عشرات الألوف من الأطفال والنساء والرجال عرايا ويُعدمون بالرصاص.
المأساة الأوكرانية هي في وقوع البلد تحت سطوة روسيا التاريخية والشديدة القسوة من ناحية، والأطماع الامبراطورية الأوروبية التي كانت ذروتها مع ألمانيا النازية بكل وحشيتها ونزعتها الإبادية. أما تلك الرغبة العميقة بالاستقلال فغالباً ما يتم سحقها أو حرفها عن صوابها. فأوكرانيا السلافية والأرثوذكسية شديدة الارتباط الثقافي والاجتماعي والاقتصادي بروسيا. والأخيرة لا يمكنها أن تتخيل يوماً “انسلاخ” أوكرانيا عنها. ولذا، كلما حاول الأوكرانيون الاتجاه غرباً أو الانفصال ولو قليلاً عن هيمنة موسكو، كانت التراجيديا تتجدد، مصحوبة غالباً بسوء حظ تاريخي أو بسوء تقدير مروّع، تماماً كما حدث في العام 1941 عندما استقبل معظم الأوكرانيين الجيش الألماني بوصفه قوة تحرير من الطغيان الستاليني، وبدأت واحدة من أسوأ فترات التاريخ الأوكراني. أو حين سنحت الفرصة للتحرر بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، فوقعت الدولة بيد طغمة مافياوية، ثم كانت الانتفاضة “البرتقالية” عام 2004 التي أفضت إلى تصويب نتائج الانتخابات وخلع الرئيس الموالي لموسكو فيكتور يانوكوفيتش. مع ذلك، استمر الاضطراب السياسي والانقسام الأهلي الذي يمكن اختصاره بالتنازع بين الميل الروسي والميل الأوروبي وبلغ ذروته مع الانتفاضة الشعبية الثانية عام 2014، “حركة يوروميدان”، التي أدت إلى تشكيل حكومة استقلالية بدأت على الفور مباحثات الشراكة والاندماج مع الاتحاد الأوروبي، ما أثار رعب روسيا، التي دخلت عسكرياً وبالنار إلى شرق أوكرانيا وأعادت ضم شبه جزيرة القرم إليها، بمؤازة من سكان تلك المناطق الموالين لموسكو. كانت “حرباً مصغرة” ما زال جمرها متأججاً.
الخطوة الأهم كانت في نهاية 2018، حين أعلن الرئيس الأوكراني بترو بوروشينكو، البدء في إنشاء كنيسة أرثوذكسية أوكرانية مستقلة، في إطار إجراء تاريخي تتخذه أوكرانيا بالانفصال عن الكنيسة الروسية. وقال بوروشينكو حينها “إن الأمن الوطني يعتمد إلى حدٍ كبير على الاستقلال الديني عن روسيا”.
خروج أوكرانيا من المدار الروسي والدخول في الفضاء الأوروبي، هو أمر بنظر الرئيس فلاديمير بوتين “مسألة حياة أو موت” بالنسبة لعقيدته السياسية –الأمنية، التي لا ترى في الدول الملاصقة لروسيا إلا “مجالاً حيوياً”، وبكثير من الاحتقار لخيارات الشعوب أو رغباتها بالاستقلال والسيادة، والأسوأ نزعتها السياسية نحو الديموقراطية والتحرر.
بالمقابل، ليس للاتحاد الأوروبي الإرادة أو القدرة على التصدي الجدّي لبوتين ولا يُظهر حزماً قوياً أو الاستعداد لمواجهة فعلية مع روسيا (التلويح بالعقوبات وحسب). والولايات المتحدة أيضاً يبدو دعمها لأوكرانيا أقل بكثير ما يمكن أن تفعله أو تستطيعه. بل يمكن القول أن الغرب يهاب عدوانية بوتين الذي يلوّح بالغزو. والكابوس هو في أن تتم مقايضة أو صفقة روسية غربية تُهدر فيها مصلحة أوكرانيا وتطلعات شعبها، تماماً كما حدث في سوريا مثلاً.
مأزق أوكرانيا أو مأساتها، عرفتها تاريخياً بلدان مشابهة في قدرها الجغرافي، كحال دول البلطيق (لاتفيا، استونيا، لتوانيا) أو بولندا التي غالباً ما كانت تُسحق بين المطرقتين الروسية والألمانية، وكذلك كان حال دول وكيانات البلقان.
وهذا ما يذكرنا على نحو ما بمأساة لبنان وقدره الجغرافي التعس.
على أي حال، في عالم اليوم، تكمن الخطورة الحقيقية بأزمة أوكرانيا أنها تذكرنا أيضاً بخريف 1939، الديموقراطيات الأوروبية المستميتة لتجنب الحرب، المرتجفة من هتلر والمتنازلة له مراراً وتكراراً (مؤتمر ميونيخ 1938)، ستستيقظ يوم 29 أيلول على اندلاع الحرب العالية الثانية.
ما يحدث اليوم في أوكرانيا يجب أن نرتعش فزعاً منه. ما سيتقرر هناك سيؤثر على مستقبل العالم، ما بين محورين صارا واضحين.