هذا العام، يحيي “حزب الله” ذكرى مضي أربعة عقود على موعد التأسيس المقبول رسمياً (1982)، أي ذاك المتزامن مع الغزو الاسرائيلي للبنان. أربعة عقود تركت أكثر من بصمة على المجتمع الشيعي ولبنان والى حد ما، المنطقة بأسرها. بعيداً عن الانقسام الاقليمي بأبعاده المختلفة، والذي قد يفرض أجندته على أغلب التقويمات لهذا التنظيم وعمله، علينا تجاوز البعد السياسي الغالب على درس هذه التجربة، أكان لجهة وصمها غربياً بالإرهاب أو عربياً على أساس الارتباط بايران (أو ما يُسمى غالباً بـ”المشروع الفارسي”).

صحيح أن للتنظيم نجاحات عسكرية في قتال الجيش الاسرائيلي حتى عام 2000، وقمع الانتفاضة ضد النظام السوري عام 2011، وبالسياسة كذلك في هزيمة قوى 14 آذار، وتوسيع نفوذه في المشهد السياسي اللبناني. وبالإمكان اقتفاء أثر “حزب الله” وقدراته كذلك على مستوى الاقليم، من العراق حيث لممثله دور سياسي وازن، إلى سوريا واليمن حيث يلعب أدواراً مختلفة.

في الواقع، الظاهر أمامنا ليس سوى آثار لـ”حزب الله” في أماكن فائقة الحساسية، طائفياً وسياسياً واقليمياً. لكن ماذا عن الوعاء الأقل حساسية وظهوراً على الإعلام، والمقصود به طبعاً المجتمعات الشيعية اللبنانية المتلقية لهذا التنظيم ونشاطاته خلال العقود الأربعة الماضية؟ لن تهتز وسائل الاعلام مثلاً لو بدل التنظيم منهاجاً دينياً أو افتتح مدرسة أو كلية دينية في منطقة شيعية-لبنانية، بل هناك تسليم كامل بهذا الدور والنشاط وتعتيم عليه، رغم استحواذه على أغلب طاقة التنظيم وتركيزه.

بيد أن التنظيم يدير مجموعة مؤسسات تُعنى بالشأن التربوي (مدارس المهدي وغيرها ممن يدور في فلك التنظيم وأعضائه)، وصحية (الهيئة الصحية الاسلامية) ورعائية (الشهيد والجريح) واعلامية (اذاعة النور وتلفزيون المنار) وللأطفال (كشافة المهدي، ومجلة مهدي وبرامج اذاعية وتلفزيونية للأطفال)، وشبكة من المساجد والحسينيات والمراكز التثقيفية. التنظيم كذلك هو الناشر الأول في لبنان، اذ يملك بشكل مباشر أو غير مباشر دور نشر وطباعة ويهيمن على الانتاج الثقافي الشيعي-الديني من خلال الوحدة الثقافية المركزية.

هذه كتلة من النشاطات واللقاءات والأعمال اليومية هدفها منذ أربعين عاماً ارساء الهوية الشيعية اللبنانية على عمودين هما ولاية الفقيه، وهي جانب عقائدي لا يحظى بصيغته الخمينية بإجماع ديني شيعي، والمقاومة. على سبيل المثال، تلميذ في المرحلة الابتدائية، وفي حال سأل (وسيسأل) عن تاريخ منطقته، سيتلقى جواباً مفاده أنها قائمة على المقاومة بقيادة علماء الدين، وأن الواقع الحالي المتمثل بهيمنة “حزب الله” هو حلقة أخيرة من سلسلة زمنية لامتناهية، أي أن التنظيم بحد ذاته هو تعبير عن هوية المجتمع وتاريخه، لا مجموعة سياسية بالامكان محاسبتها. هذا التلميذ سيخوض حياة بأسرها قائمة على هذه الهوية، أكان لجهة العبادات والطقوس الدينية، أو لناحية العلاقات المجتمعية والتعاطي مع “الآخر” في البلد على أساس قربه من هذه القيادة الدينية ومقاومتها المستمرة للقوى التآمرية الخارجية. التصويت في صناديق الاقتراع هو طقس ديني على ارتباط بتأكيد الهوية وتجديد الولاء لها، وليس اختيار الأنسب لأداء المهمة.

والسؤال المطروح علينا في العيد الأربعين لـ”حزب الله”، هو أي مجتمع أنتج؟ ومن هذا المنطلق بالإمكان الحديث عن مشروع “حزب الله”، من خلال نتيجته، أي المجتمع المتلقي لهذه النشاطات التربوية والتثقيفية على مدى العقود الماضية. وما مسار تطور هذا المجتمع وقدرته على المشاركة والائتلاف في لبنان؟ وماذا يبقى من هذا المجتمع بعد نهاية الحالة الخمينية؟

الأرجح أن لا تكون الاجابات قطعية باتجاه دون الآخر. لكن من السذاجة الاعتقاد بأن الخمبنية ستتبخر فور انتهاء المشروع في ايران، بل الأرجح أن تيارات دينية جديدة ستنبت للتعبير عن هوية وطقوس ومفردات حاكها التنظيم في نسيج مجتمعه خلال العقود الماضية. هو بيت على قياسه وحده، وعلى من يريد حياة فيه من بعده، أن يتشبه به.

مهند الحاج علي للمدن