إن الوضعيّة المأسويّة التي يعيشها لبنان حالياً تشكّل أفضل مناسبة لاستعادة الوعي العلمي وليس العاطفي فقط، بمعاني الاستقلال ورهاناته والتزاماته على الصعد الشخصيّة والوطنيّة والدوليّة. ولعلّ اللبنانيين هم أكثر الناس اهتماماً بما يعنيه استقلالهم على كافة الصعد. ولأنّ الكثيرين منهم باتوا خارج المفهوم العلمي للاستقلال، وجنحوا إلى الانتماءات الخاصة، الشخصيّة والفئويّة، وجدنا من الواجب أن نعود ونذكّر ببعض القواعد العلميّة التي يقوم عليها استقلال الدّول ومنها لبنان.
أولاً: في معاني الاستقلال
تندرج معاني الاستقلال للبلدان تحت ثلاثة مضامين:
1 – المضمون اللغوي: ويعود في اللغة العربية إلى جذر «استقلّ» وفيه معنيان: الرفعة والندرة. وهاتان الصفتان تكسبان البلد، وهو هنا لبنان، المبرر للاستقلال بما هو عليه من رفعة في المكانة وندرة في الثروة ورمزها الحرية.
2 – المضمون السياسي: أن يكون البلد حراً غير تابع لسواه من الدول. ومثل هذه الحرية تؤدي إلى حرية الانسان في الدولة واحترام ارادة الجماعة والتعبير عن ذلك يكون بممارسة السلطة في الدولة بشكل مطلق.
3 – المضمون الجيوبوليتيكي: إذ جرى تقطيع العالم إلى حيّزات جغرافية مستقلة (دول) ويتم التنافس والصراع والنزاع حول هذه الحيّزات ومدى ضرورتها وشرعيّتها: جغرافياً وتاريخياً. وكذلك لمن ستكون السيطرة عليها وإلى أي مدى ستقوى وتستمرّ.
ثانياً: الكيان
لا معنى للكلام على الاستقلال، ما لم يكن مبنياً على كيان جغرافي يشكّل القاعدة للدولة اللبنانية. وكيان لبنان كما أعلنه الجنرال غورو هو الذي حدّدته البعثة الفرنسية عام 1861 والمعروف بحدود لبنان التاريخيّة من النهر الكبير إلى فلسطين ومن المتوسط إلى قمم السلسلة الشرقية. وذلك بحسب صك الانتداب الممنوح لكل من فرنسا وبريطانيا. والذين ينتقدون هذا الترسيم الممنوح لفرنسا وبريطانيا بحدود دولة لبنان الكبير لا يدركون أنّ هاتين الدولتين «المتحضرتين» بحسب عصبة الأمم قد قامتا بترسيم الحدود، ليس للبنان فقط بل لما نسبته 40% من حدود دول العالم أجمع. ولعلّ أفضل تعبير عن الوضعية اللبنانية هي التي اطلقها الإمام موسى الصدر والقائلة: «لبنان وطن نهائي لجميع أبنائه».
ثالثاً: السيادة
إنّ سيادة الدولة عامة، ومنها سيادة الدولة اللبنانية هي التي يعبّر عنها بسلطاتها على الاقليم الجغرافي الذي يُختصّ به وبما يوجد فيه من أشخاص وأموال وثروات. كما تواجه الدول الأخرى في الخارج، وتعتبر كل دولة ذات سيادة مساوية لأي دولة أخرى بحسب القانون الدولي وذلك بغض النظر عن عدد سكّانها ومساحتها وثرواتها. وفي هذا تكون كل الدول متساوية في المنظمات الدولية، على ان التعبير عن هذه السيادة يكون باتجاهين: الأوّل، عمودي تمارس فيه الدولة بقوّة السلاح سلطتها على المقيمين على أرضها دون مشاركة أحد. والثاني، أفقي تمارس فيه الدولة سلطتها تجاه كافة الدول والقوى الخارجية والمؤسسات الدولية وفقاً لمصالحها.
رابعاً: تحدّيات الاستقلال
يواجه استقلال لبنان، في الحاضر، كما في الماضي، جملة تحديّات سياسيّة وجيو- استراتيجيّة ووجودية منها:
1 – موقع لبنان الاستراتيجي في منتصف الدائرة لشرقيّ المتوسط.
2 – كونه ثروة جيوبوليتيكية لأكثر من جهة داخلية واقليمية ودولية.
3 – تركيبته الاجتماعية المتعددة والمشدودة الى قوى خارجية مما يخلق حالة من الاضطراب وعدم السلام.
4 – تعدد المشاريع البديلة المطروحة للمنطقة بما فيها لبنان ومنها: سوريا الكبرى، اسرائيل الكبرى، الشرق الوسط الكبير، الشرق الأوسط الاسلامي بآفاقه الايرانية الشيعية، الأمة العربية من المحيط الى الخليج، والأمة الاسلامية.
5 – هذه المشاريع تضع لبنان في عنق الزجاجة: فهو على تقاطع الانقسام الجيوبوليتيكي بين المتوسط والخليج واحتيازه الى جهة معينة مسألة اساسية في ميزان القوى وخاصة بين الهلال الشيعيّ والقوس السنيّ. وهو يمثل ثقلاً جديداً بفضل ثروته النفطية. وهو مركز للوجود المسيحي في الشرق الأوسط، وبالتالي علاقة هذه المنطقة بدول الغرب. والوصول الى مرحلة حاسمة يؤكد فيها لبنان استقلاله الحقيقي وسيادته الحقيقية باعتباره وطناً نهائياً ثابتاً وليس وطناً مرحلياً مؤقتاً وظرفياً وعارضاً أي متغيّراً وهذا ما أكّده وحقّقه الى حدٍّ بعيد تفاهم كل من أوروبا وأميركا باصدار القرار الشهير رقم 1559 عن مجلس الأمن وهو اعتراف دولي بأن لبنان وطن نهائي وحقيقة جغرافية وتاريخية وليس كما يقول خصومه وأعداؤه في الداخل والخارج بأنّه خطأ جغرافي وتاريخي.
6 – محنة الميثاقيّة: من المعروف والمؤكد لدى الداخل والخارج أنّ لبنان الدولة والسلطة والكيان يحكم بموجب مبدأ الميثاقية التي هي ميثاق شرف تاريخي بين مختلف الطوائف وطريقة ومدى وحدود وجودها وممارستها للسلطة في لبنان. وقد شدّدت وثيقة الوفاق الوطني على هذه الناحية ودعت الى ممارستها واحترامها في كافة الميادين ولدى كافة الطوائف. ان ما يعانيه لبنان حالياً من فراغ في رئاسة الجمهورية والمراكز العليا في الدولة ذات الطابع المسيحي الماروني تحديداً هو تعبير عمّا نسمّيه «محنة الميثاقية» لأنّها مسألة مفتعلة ومقصودة الهدف منها إقصاء الموارنة عن المراكز القيادية في السلطة وذلك نقضاً للميثاقية ولأهداف معروفة تشوّه بل تنتقص معنى الاستقلال.
وعليه، ينبغي تسمية الجهات الساعية إلى ذلك بكل شفافية ووضوح وصراحة وعدم الاكتفاء بالتعميمات، والاعلان الفوري عن وقف الالتزام بالمبادئ الميثاقية حتى عودة الجميع إلى الالتزام بهذه المبادئ. عندها، عندها فقط يكون للموقف من رئاسة الجمهورية ومن قيادة الجيش المعنى الصحيح والحاسم! وعندها سيولد فجر إستقلال جديد!
الكاتب: د. نبيل خليفة