أنهكت عمليات التجميل والتحسين والتمحيص وأخيراً التعديل في موازنة 2024 المحالة من الحكومة، لجنة المال والموازنة رئيساً وأعضاءً لما يعتريها من شوائب وأخطاء، وفوضى في بنود الزيادات المفروضة، وعشوائية لا تليق نصاً ومضموناً بموازنة دولة كانت لعقود خلت أول دولة في المنطقة في اعتماد الموازنات السنوية والانضباط المحاسبي والمالي.

كثيرة كانت التعديلات والشوائب والأخطاء التي تم تعديلها وأبرزها: الاحتياط الكبير في الموازنة غير المبرّر الذي كانت الحكومة تحاول تمريره، حيث بلغ نحو 87 ألف مليار ليرة. وهو ما كان يخفي في طياته نفقات غير مشمولة في صلب مشروع الموازنة، ما يعكس سوء التخطيط وربما النوايا لـ”تقطيع” هذه الموازنة كيفما كان.

وفيما تباهت الحكومة بتصفير العجز تبيّن أن ذلك لا يتضمّن سلفات الخزينة التي حصلت عليها الحكومة في السنوات القليلة الماضية، ولم تسدّدها، وهي تُعدّ محاسبياً ديناً على الدولة والمؤسسات العامة والإدارات التي استهلكتها، وهي شكلت 72% من الإنفاق العام، وصُرِفت من خارج الموازنة على القاعدة الاثني عشرية، لعدم وجود قطع حساب عن العام المنصرم، في استمرارية لمعضلة وسلوك مالي عانت منهما المالية العامة منذ 2006 لغاية يومنا هذا.

بالإضافة إلى ذلك تظلل الموازنة مخالفة دستورية مستمرة، وهي ليست المرة الأولى، وتتمثل في تحويل الحكومة مشروع موازنة عامة لإقرارها في المجلس النيابي، دون إرفاقها بقطع حساب وفقاً للدستور والقانون، ولا سيما موازنات عام 2017 لغاية 2024 التي اعتقدت الدولة ومجلس النواب كما المواطنون أنّ فيها تحقيق “شيء” من الانتظام المالي العام.

أهمية قطع الحساب أنه يترجم الشفافية والحوكمة حيال الإنفاق العام، وحسابات الدولة عموماً، والنتائج المالية التي ترتبت على تنفيذ الموازنة، وهو بمثابة الحساب القطعي والنهائي للدولة الذي يبيّن الواردات المحقّقة للخزينة والمداخيل، في موازاة ما صُرف من نفقات على امتداد السنة المالية.

من هنا تأتي أهمية إقراره قبل الشروع في مناقشة الموازنة قانوناً، ليتسنّى للمجلس النيابي ممارسة رقابته المالية اللاحقة على تنفيذ الموازنة، فيعمد في ضوء الأرقام والمناقشات الى إبراء ذمّة الحكومة والوزراء أو التمنع عن ذلك، ما قد يرتب أحياناً مسؤوليات جزائية مباشرة على أشخاص الوزراء منفردين.

تتدرج مراحل إنجاز قطع الحساب، حول دور الإدارات العامة ووزارة المال، ثم الدور الرقابي لديوان المحاسبة، وأخيراً دور مجلس النواب عندما يحال إليه مشروع قانون قطع الحساب.

على ضوء الكلام الناري لرئيس لجنة المال والموازنة النائب إبراهيم كنعان لدى مناقشة مشروع موازنة 2024 الذي اتهم “دولتنا” بنقص الذمة وبفقدان الشرف يتساءل اللبنانيون عن نجاعة الحلول أو “التسويات” التي اعتُمدت لإقرار ونشر الموازنات سابقاً، من دون أن يسبقها إقرار قانون قطع الحساب من الحكومة؟

المحامية الدكتور جوديت التيني تشرح لـ”النهار” أن الحكومات اعتادت مخالفة المادة 87 من الدستور التي تنصّ على وجوب إقرار قانون قطع حساب الموازنة المنصرمة قبل نشر الموازنة الجديدة. وقانون قطع الحساب الأخير المقر يعود لموازنة 2003 وهو القانون 716/2006، وفي المرحلة التي سادت الأعوام 1993 لغاية 2003، كان يقر مجلس النواب قوانين قطع الحسابات متحفظاً لناحية غياب تقارير ديوان المحاسبة، جاعلاً موافقته مشروطة بما يراه ديوان المحاسبة لاحقاً من تصحيح بنتيجة تدقيقه، فيما دور ديوان المحاسبة هو فقط لمساندة مجلس النواب وغير ملزم لمجلس النواب.

أما الحل المعتمد من 2017 لغاية 2024 فإما كان مجلس النواب يتغاضى كلياً عن مسألة عدم إقرار قطع حساب أو كان يعمد الى إقرار قانون استثنائي يسمح بإقرار ونشر الموازنة من دون أن يسبقها إقرار قطع الحساب، ويكتفي مجلس النواب بمنح الحكومة مهلاً إضافية لإنجاز قطع الحساب وحسابات المهمة، غير أنّ الحكومات لم تتقيّد يوماً بالمهل الممنوحة لها. وهذا ما حصل بخصوص القانون رقم 143 تاريخ 31/7/2019 الذي سبق نشر موازنة عام 2019 وأعطى الحكومة مهلة ستة أشهر من تاريخ نفاذ قانون الموازنة لكي تنجز جميع الحسابات المالية النهائية والمدققة اعتباراً من سنة 1993 حتى سنة 2017 ضمناً، ولكي تحيل مشاريع قوانين قطع الحساب عنها. وفي سنوات أخرى كان يصار الى تضمين الموازنة نفسها نصاً يجيز تخطي موجب إقرار قطع الحساب، هكذا مثلاً نص المادة 65 من قانون موازنة 2017 والمادة 95 من مشروع موازنة 2024.

والخطورة برأيها أن أياً من هذه النصوص لم يحترم بشكل كامل، فتجاهل مجلس النواب تلكؤ الحكومة ولم يحاسبها يوماً. والنهج عينه يستمر اليوم. وكم نحن بعيدون عن تحقيق مبدأ شفافية وصدقية حسابات الإدارة المالية. والخطورة أن هذا النهج في عدم المحاسبة والمساءلة مستمر منذ التسعينيات لليوم، وتسأل: ما الحائل التقني والعلمي الذي منع من إنجاز قطع حساب موازنة 2022؟ وما أسباب التأخير؟ أمام هذا الواقع، ثمة سؤال عما إن كان من الممكن أن يكون اليوم عدم إقرار قطع حساب موازنة 2022 سبباً للطعن في موازنة 2024 وإبطالها لدى المجلس الدستوري؟

تؤكد التيني أن الإمكانية متاحة بفعل مخالفة المادة 87 من الدستور المشار إليها والسابقة التي حصلت سنة 2018 في القرار رقم 2 تاريخ 14/5/2018 للمجلس الدستوري قد لا تتكرر اليوم. فموقف المجلس الدستوري بخصوص إقرار موازنة عام 2018 ونشرها من دون أن يسبقها إقرار قطع الحساب كان بتطبيق نظرية سلّم الأولويات echelle des principes à valeur constitutionnelle.

ففي قراره حول الطعن بموازنة 2018 طبق المجلس الدستوري سلم الأولويات ولم يضع مقياس من القيم بين المبادئ الدستورية لأنها أصلاً متساوية القيمة، فليس هناك من تسلسل هرمي بينها أي بين إقرار الموازنة وإقرار قطع الحساب. لكن ما فعله هو التوفيق بين المبادئ التي لها نفس القيمة الدستورية في سبيل تحقيق المصلحة العامة والانتظام المالي العام. ويعني التوفيق إقامة التوازن في ما بين القيم في ضوء المعطيات الموضوعية والظروف القائمة عملياً وواقعياً، وحينها رأى المجلس الدستوري أهمية وجود موازنة عامة، مع التشديد على أهمية إقرار قانون قطع الحساب وحث مجلس النواب والحكومة على الإسراع في وضع هذا القانون. أما اليوم فقد يكون موقف المجلس الدستوري مغايراً لموقفه سنة 2018 ولا سيما لأن المعطيات الموضوعية تشير الى أن هذه الموازنة أتت من دون أي مضمون مجدٍ وأثر إيجابي على الاقتصاد والمالية العامة.