ما يحصل على المستوى الاقتصادي والمالي في موضوع الدولار، غير مسبوق في التاريخ: حكومة تقرر رسمياً دفع رواتب الموظفين بعملة أجنبية، وتمنع عنهم الليرة اللبنانية، في ظل تفاوت أسعار الصرف وتباينها. وهذا متعمد لعصر الموارد حتى نضوبها. وينتقل الموضوع من نهب المال العام إلى نهب المال الخاص بطريقة مفضوحة، من خلال تعميمات يصدرها المصرف المركزي. هذا، بلا إجراءات جذرية لحلّ الأزمات المتكاثرة.
ويصور ما يجري على أنه نزول على طلبات صندوق النقد الدولي، علماً أنه لا يمكن للصندوق أن يطلب ذلك. بل قد يطلب تخفيف الانفاق الاجتماعي وزيادة التقشف، ورفع الضرائب واعتماد التصاعدية منها، والعمل وفق قواعد الاقتصاد لإعادة الثقة واستعادة النمو الاقتصادي. أما ما يجري فمختلف جذرياً عن قواعد الاقتصاد وأبسط قواعد التعامل المالي في أي مؤسسة مالية بسيطة.
مجتمع القبول
هناك أسباب عدة لمثل هذه الإجراءات البهلوانية، وأساسها عنصر نفسي: دفع الناس إلى قبول أي شيء مطروح، بعد فقدانهم قدرتهم على رفض ما يُعرض عليهم. فسابقاً عندما أقر دفع الرواتب بالدولار، فرح الموظف بأنه حقق بعضاً من الكسب السريع، ودخل في تلك الدوامة الجهنمية. وبعدها قلبت القواعد ليصبح تقاضي الراتب بالدولار خاسراً، بسبب التفاوت المعكوس في أسعار الصرف. وعليه يتحول اللبنانيون إلى ضفدع في قدر مليء بالماء، والنار تحته تسخن خفية عنه، فيتعرض الضفدع للسلق حتى الموت، فيما هو يتوهم أنه يسبح.
والمساعدات المطروحة في الموازنة وسواها من إجراءات موقتة انعكاساتها كارثية. فيما هدف الموازنة الرئيسي هو رفع أسعار الخدمات. أما المساعدات فتتآكل مسبقاً بفعل ذلك الارتفاع.
خزعبلات ولا مفاوضات
هدف آخر من هذه الجريمة: تثبيت سعر الدولار على مدى معين قبل الانتخابات. ولا شك في أن التثبيت يتطلب صرف أموال من الاحتياطي الإلزامي، لتمرير هذه المرحلة. وهناك هدف آخر، هو تحقيق مكاسب وأرباح هائلة على حساب الموظفين والمودعين. وأي زيادة على الرواتب تصادر مستقبلاً. ومثل هذه الخزعبلات تعني أن لا مفاوضات جدية مع صندوق النقد الدولي. فعندما تبدأ المفاوضات الجدية تنتهي هذه الإجراءات. وكما أن هذه الإجراءات استباقية مالياً، ثمة سعي آخر لإجراءات استباقية في مراكز الدولة العميقة، من خلال إعادة البحث عن صفقة جديدة لانتاج التعيينات التي تريدها القوى المختلفة، وبعضها تعيينات أمنية وأخرى في إدارات ومراكز أولها منصب مدير عام وزارة المالية، الذي يصر رئيس الجمهورية على تعيينه.
ولا بد من استشراف الانعكاسات الاجتماعية لمثل هذه القرارات. وهي حتماً ستكون معطوفة على متغيرات سياسية كبرى، فيما يغرق اللبنانيون في فقر مزمن، وتنامٍ في الطبقات الفقيرة. ويكرس ذلك تفاهماً سياسياً يحاول حزب الله إنتاجه كعنصر قوة إقليمية في المنطقة، معطوفة على تفاهمات سياسية مع قوى أخرى، قبل الوصول إلى تسويات من شأنها إرساء قواعد سياسية جديدة. وأي تغيير سياسي واقتصادي في لبنان، يفترض تقديم تنازلات متبادلة بين طرفين: أصحاب القرار وأصحاب المال.
حزب القطيعة مع العرب
والتحولات الداخلية هذه مترابطة، وهدفها رسم حدود سياسية إقليمية، مرتبطة بمشروع حزب الله الواضح في تكريسه القطيعة مع العرب، وترسيم حدود التعاطي السياسي مع المجتمع الدولي من خلال الاعتداءات المتكررة على قوات الطوارئ الدولية العاملة في الجنوب.
وهذه ستكون عنصراً حاضراً من عناصر التفاوض عندما تحين لحظة التفاهم الإقليمي والدولي. وتمهيداً لذلك، لا بد من الحاجة إلى إعادة إنتاج واختراع “البعبع” المسمى جماعات إرهابية متطرفة أو داعش. وهي تستخدم غب الطلب لزوم الحاجة إلى رسم قواعد الاشتباك، وتطويع من يريد أن يخرج عن هذا السياق المراد رسمه، والانتخابات ضمناً. وهي إما ستحصل وفق نتائج معروفة سلفاً ومنسقة، وإما لن تحصل بذريعة الوضع الأمني.
منير الربيع لموقع المدن