قبل انتخاب محمد خاتمي رئيسًا للجمهورية الإسلامية الإيرانية 1997، بصفته ممثل الجناح الإصلاحي في النظام الخميني، واستمراره في هذا المنصب حتى العام 2005، وزيارته لبنان رسميًا بصفته تلك سنة 2003 بدعوة من الرئيس اللبناني إميل لحود، كان خاتمي قد شغل منصب وزير الثقافة في الجمهورية الإسلامية (1982- 1992)، وزار بيروت وعقد فيها ندوات متحدثًا عن أطروحته “حوار الحضارات”، نقضًا لأطروحة الأميركي صامويل هنتنغتون “صراع الحضارات”.
آية الله الإيراني أحمد علم الهدى (من الخلفاء المحتملين لعلي خامنئي) طوّر أخيرًا أطروحة خاتمي، بصفته منظر النظام الإيراني الحالي. فقال في خطبة مطولة: إن عصر الحداثة الذي بدأ بمعاهدة وستفاليا واستقلال أميركا والثورة الفرنسية والثورة الصناعية، قد انتهى بدخولنا عالم ما بعد الحداثة، أو الحداثة السائلة حسب أطروحة المفكر البريطاني البولندي الأصل، زيجموند باومن. والعالم هذا، حسب علم الهدى، لا يمكن أن تقوده إلا إيران الخمينية، بعد انهيار عالم الحداثة، وطالما أن الولايات المتحدة تتفكك، والإسرائيليون يفرون من أرضهم الموعودة. وإيران هي الممثل الوحيد للإسلام الحقيقي بين 57 دولة معظم سكانها من المسلمين، وبعض الدول غير الإسلامية اتبعت النموذج الإسلامي، لا سيما فنزويلا.
آية الله الإيراني أحمد جنتي انتقد قبل أسبوعين المتذمّرين من إن الناس باتوا لا يحصلون إلا على وجبة واحدة في اليوم، بسبب التضخم. وتساءل جنتي: ما الخطأ في ذلك؟ وأجاب: الوجبة الواحدة نعمة. وهناك أناس لا يحصلون عليها. والقاعدة في الإسلام أن نتحمل كل مشقة لحماية من يحفظ الإسلام من أعدائه.
نظام ما بعد الحداثة، أو الحداثة السائلة الإسلامية الخمينية الجديدة، هو نظام مجاعة رسالي أو جهادي، إذًا. وكفايته وجبة واحدة في اليوم.
وتشير الإحصاءات المتداولة عن الجمهورية الإسلامية الإيرانية، إلى أن عمليات الإعدام فيها تمثل 50 في المئة من عمليات الإعدام في العالم كله. هذا فيما لا يتجاوز عدد سكان إيران 1.1 في المئة من سكان العالم. ويمثل سجناء الرأي والسجناء السياسيون فيها أكثر من 40 في المئة من أمثالهم في العالم كله. وفي كل سنة يبلغ العدد المتوسط لمغادري إيران الإسلامية 150 ألف شخص من أصحاب التعليم العالي، بينهم 3500 طبيب. وهؤلاء ينضافون إلى 8 ملايين إيراني (ما يقرب من 10 في المئة من الإيرانيين) يقيمون في المنافي العالمية.
وحسب منظمة الشفافية الدولية، تتقدم الجمهورية الإسلامية الإيرانية دول العالم كله في تفشي الفساد فيها. وارتفعت معدلات الرشوة والاختلاس بنسبة 300 في المئة في الأشهر الأخيرة. وهناك تقارير عن نحو 80 شخصية إيرانية غير معروفة، لكنها قوية النفوذ، تدين بمبالغ لا حصر لها للبنوك التي تملكها الدولة الإيرانية، على أساس ضمانات لا وجود لها. ويتراوح هروب رؤوس الأموال من إيران ما بين 22- 30 مليار دولار سنويًا. وأصبحت العملة الوطنية الإيرانية عديمة القيمة. وأقدم أكثر من مليون ونصف المليون إيراني على شراء عقارات في تركيا، ومليون ومئتي ألف إيراني آخرون على الاستثمار في عقارات جورجيا وأرمينيا وصربيا. هذا فيما يعيش 13 مليون إيراني في مساكن عشوائية فقيرة في بلادهم.
وقبل أسابيع أدى انهيار برج سكني جنوب غرب إيران إلى مقتل 80 شخصاً. وتشير الإحصاءات إلى وجود 500 برج متهالك في طهران، ولا يمكن هدمها، لأنها مملوكة من شخصيات قوية في النظام. وتراجع موقع إيران على الرسم البياني العالمي لمتوسط أعمار الإيرانيين، إلى المرتبة 49. هذا بعدما كانت في المرتبة 38، سنة 1977. وتتراجع إيران ديموغرافيًا، بسبب عدم قدرة الفئة العمرية الشابة على الزواج. وحسب وزير الخارجية الإيرانية السابق محمد جواد ظريف، أنفقت طهران نحو 35 مليار دولار سنويًا لإطعام مؤيديها في العراق وسوريا ولبنان واليمن.
لبنان اليوم
لا بد من التساؤل: لماذا تطعمهم، وهي على هذه الحال من الأزمات؟! وبماذا يمكن التعليق على تلك الأرقام، وعلى أطروحات فلاسفة الخمينية الجدد؟
هنا، في “لبنان اليوم” -وهذا عنوان إحدى محاضرات ميشال شيحا في الندوة اللبنانية سنة 1942، أي قبل 80 سنة بالتمام والكمال- هل يمكن أن نردد قول صاحب “لبنان في شخصيته وحضوره” في مطلع محاضرته تلك، أنه “ذاك الطائر الناري الريش، الذي كان لا يموت إلا لحظةً، ثم ينبعث من رماده”؟
ولحظةُ الموتِ أو الاحتضار اللبناني هذه التي نعيشها اليوم، إلى متى تستمر؟ هل تلوح في هذا الأفق المظلم قيامة بعدها؟ أم أنها لحظة مديدة لا يلوحُ في أفقها سوى ما نقله شيحا عن هنري لامنس في عهد فتوح الإسكندر المقدوني: “كان سكان الدويلات السورية يعيشون في معازل (…) حياتهم حياة العشائر وقواهم تُهدر في النزاعات الداخلية: الشمال يواجه الجنوب، وأهل الجبال يواجهون أهل السهول، وأهل الداخل يريدون لأنفسهم منفذًا إلى البحر ينتزعونه من أهل ساحل المتوسط”؟