حين زار البطريرك مار بشارة بطرس الراعي الأراضي المقدسة عام 2014، شُنت حملة سياسية ودعائية شعواء ضده، ارتكزت على التخوين والاتهامات المعروفة.

أصحاب تلك الحملة، وصفوا الزيارة بـ”الخطيئة التاريخية”، وإنها تعني “تطبيعاً مع المحتلين”. وكان رد الراعي حينها: “لا يحق لأحد أن يقول أقبل أو لا أقبل بالزيارة.. ولا أطلب من أحد أن يقبل”. وهو رد يوضح بلا مواربة موقع بكركي ومكانتها وسلطتها التي لا تقبل مطلق وصاية سياسية، لا من احتلال ولا من حزب ولا حتى من دول. وهو ما أكدته البطريركية في بيانها الاربعاء الماضي: “إن الذين أوحوا من قعر مناصبهم بالتعرض للمطران الحاج، وخططوا وأمروا ونفذوا عملهم المدان، غاب عنهم أن ما قاموا وما يقومون به لم ولن يؤثرعلى الصرح البطريركي، الذي صمد في وجه ممالك وسلطانات ودول، فزالوا هم وبقيت البطريركية..”

توقيف المطران لا يمكن وضعه الا في سياق تحطيم واحدة من أكبر مؤسسات ومرجعيات الجمهورية اللبنانية، او عملية إخضاع كبرى في صيرورة الاستحواذ على الكيان اللبناني، او ربما وبشكل “مهذب” معاقبة البطريرك بدعوته إلى “الحياد الإيجابي” خصوصا مع اقترابنا من موعد الانتخابات الرئاسية ومحاولتهم كسر آخر قلاع الاعتراض على مشيئة الحزب الحاكم.

وبما ان الراعي حدد مواصفات الرئيس المقبل التي لا تتناسب مع تطلعات حزب الله قرروا إسكات البطريركية نهائياً كما حال سائر البطريركيات الأخرى في الدول المجاورة. على مدى ربع قرن تقريباً، عمل حزب الله بصبر وتصميم على تصديع أحزاب وتيارات سياسية، حليفة أو مناوئة، واستلحاق أجنحتها في فلكه، أو إدخالها بالموت السريري كحال تيار المستقبل، أو الحزب الشيوعي. كما عمل في شق وشرذمة أو استتباع مؤسسات الطوائف من دون استثناء، من المجلس الشيعي الأعلى إلى مشيخة العقل فتجمعات المشايخ الخارجة عن دار الفتوى.. إلخ. وهو تماما ما فعله في مؤسسات الدولة وأجهزتها وإداراتها، عدا عن طموحاته المصرفية، وابتداع اقتصاد مواز، وأمن مواز، من غير إغفال أثره في صوغ القرارات المصيرية، والسياسة الخارجية، وحتى في كتابة قانون الانتخاب.. وكيف تتألف الحكومة ومن يسمّي رئيس الجمهورية.

ما حدث في الناقورة بداية وحسب. ومن المهم الانتباه أيضاً إلى فداحة الضعف والوهن والـ”لا حول ولا قوة” لرئاسة الجمهورية ورئاسة الحكومة ووزارة العدل ووزارة الداخلية وكبار قادة الأجهزة الأمنية إزاء فعلة التوقيف المهين للمطران الحاج، لنفهم إلى أي مدى انزلقت السلطة خارج مؤسساتها الدستورية.

بمعنى مختصر، بدأت “حرب إلغاء” مرجعية بكركي، وهي حرب سبق ان بدأتها قوات الاحتلال السوري، فإنسحبت سوريا كغبرها من الطامحين وصمدت بكركي. لم يتعلم هؤلاء اي درس من التاريخ، لكن المهم والاهم، ان دائما كانت بكركي تنجح في جمع رعاياها خلفها، فشكرا لحزب الله اعاد جمع الموارنة لمواجهته.