كان الرئيس اللبناني، عندما أطلَّ الكيان على الدنيا، يجلس على أنبل كرسيٍ في الشرق. لأنه كرسيٌ صنع على القمم العالية، بأحلام الممكن والمستحيل، في الرؤى المنبسطة بلا حدود أمام ناظرَيه، بما تختصره كلّ التجربة الجديدة. وكانت مهمّته ولا تزال ألّا ينحدر أو يتهاوى. وهو كان، وبخاصةٍ بالنسبة إلى زملائه من ملوكٍ ورؤساء يختصر الرمز الذي يُعجبون به. فيعاملونه ليس فقط بالاحترام، بل بالصداقة الكريمة، كون لبنان كان يمثّل بالنسبة إليهم بلد العطاء على أنواعه. فكان لزمنٍ طويل مقصدهم السعيد.
حصل ذلك من دون أن يتطلّع العالم، ولا أهل الشرق والغرب، إلى ما كان الرئيس اللبناني يملك من صلاحيات. لأنه بالنسبة إليهم يرمز إلى ما هو أكثر من ذلك، وأعلى من ذلك، وأوسع من تنازعٍ في الصلاحيات. لأن الرئيس اللبناني ذاك لا تصنعه الصلاحيات الرئاسية. فهو الرئيس المسيحي الوحيد في الشرق. وأهل الشرق والعرب بخاصةٍ، أحبّوا هذه التجربة الرائدة والغنية، كما وردَ في البيان الختامي لقمة الدار البيضاء في أيار ١٩٨٩ قبل أشهرٍ قليلة من انعقاد مؤتمر الطائف. أحبّوا هذا الوجود المميّز بينهم. هذا الذي يختصر الشرق بما يجب أن يكون عليه: منطقة سماحِ والتقاءٍ وتعالي، قبل أن تتحوّل الأنظمة إلى صراعات، وتتوالى الانقلابات وتتهاوى العروش والكراسي. ويُصيب لبنان ما أصابه من تقلّبات محيطه.
ولكن الرئيس اللبناني بَقِيَ. هذا صحيح. خرج بعض ممن جلسوا على ذلك الكرسي إلى المجالات الدنيا، في مغريات السلطة. وكانت تلك ولا تزال، وبخاصةٍ اليوم مشكلة المنصب الرئاسي في لبنان، ليس في طموح الارتفاع إلى ذلك السموّ بل في إغراءات المنصب الذي ما يلبثُ، وفق التجارب العديدة، أن ينسحب على البطانة والعائلة والأصهار وكلّ ما ينتج عن ذلك من تشويهٍ للمهمة الرئاسية في لبنان التي تشبه الرسالة. وكان من سوء حظّ لبنان في هذا الشأن وعلى نحو ما نشهده اليوم من صراعات طامحين لهذا المنصب، أن البدايات كانت واعدة.
فالرئيس كميل شمعون (١٩٥٢-١٩٥٨) منع ولدَيه دوري وداني من دخول قصر الرئاسة في محلّة القنطاري طوال سنوات ولايته، حتى لا يُصبحا مقصد المنتفعين وطالبي الخدمات. وشقيقه القاضي إميل شمعون استمرّ طيلة ولاية شقيقه الرئيس قاضيًا منفردًا. لم ينل أي تقدّم أو ترفيع. وكانت زلفا شمعون سيّدة الكرامة والأناقة، والصورة الزاهية للبنان، تتنقّل بارتياحٍ في المناسبات الرسمية بين الإمبراطورة ثريا الإيرانية، والملكة فريدريكا اليونانية، وإيفا بيرون الأرجنتينية. وتنشطُ صامتةً في مساعدة الأدباء والفنّانين اللبنانيين.
وكان كميل شمعون، مثله مثل بشارة الخوري ورياض الصلح ورفاقهما، من ورثاء نظام الانتداب الفرنسي، نظام المؤسّـسات والقانون وأصول تحمّل المسؤوليات على نحو ما تعلّمه اللبنانيون بسطوة السلطة، ولكن أيضًا من الورثاء البعيدين للنظام العثماني، الذي حكم الشرق طيلة أربعة أجيال بمنطق الدولة وقوّتها. ولذا كان الرؤساء الأوائل، حتى مطلع السبعينات من القرن الماضي من مدرسة الدولة بكلّ ما للكلمة من معنى.
على أن الصورة ما لبثت أن تبدّلت، وجاء اتّفاق القاهرة في خريف ١٩٦٩، بعد سنتَين من حرب حزيران ١٩٦٧ العربية-الإسرائيلية ليقطع سنوات زمن الصفاء والأمان والسلام، والذي على أساسه حضرت المقاومة الفلسطينية في صيف ١٩٧٠ إلى لبنان قادمة من الأردن مرورًا بسوريا بعد أحداث ذلك الصيف مع القوّات الأردنية، واستقرّت في لبنان بكامل أعدادها وعتادها على أساس ذلك الاتّفاق.
للمصادفة، وللمصادفة فقط لا بدّ من القول إنّ لبنان الرسمي والسياسي يومذاك، أي في صيف ١٩٧٠، كان منشغلًا بمسألةٍ أكثر أهمية في رأي القادة والسياسيين وهي انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية. كانت تلك الانتخابات، بما حملت يومذاك من تحدّيات سياسية داخلية، ليس أقلّها كما لا يعرف الجيل الجديد من القرّاء، الخلاص من سنوات “النهج الشهابي” الذي كان لا يزال مستمرًّا في سنوات الرئيس المنتهي الولاية شارل حلو.
وهكذا أُعميَت البصائر يومذاك تمامًا. ولم يكن أحدًا متلفّتًا إلى الثورة الفلسطينية تستقرّ في الجنوب.
وعندما قال الرئيس الجديد سليمان فرنجية الذي انتُخب في شهر آب ١٩٧٠ بأكثرية الصوت الواحد ضد منافسه الياس سركيس: “ستنامون وأبواب بيوتكم مفتوحة” إنما كان لا يزال مقيمًا في سنوات ما قبل ولايته، سنوات الصيف والمهرجانات والسياح وبيروت المتلألئة على أنها ستّ الدنيا وفق توصيف الشاعر نزار قبّاني. وذلك قبل أوّل اصطدام مع الفلسطينيين في ربيع ١٩٧٣ الذي تَبِعَهُ اتّفاق “ملكرت” على اسم الفندق القائم في الرملة البيضاء في بيروت حيث تمَّ توقيع اتّفاق جديد مع الفلسطينيين بأمرٍ من الرئيس فرنجية نفسه.
والباقي معروف، أو لعلّ الجيل الجديد عَرَفَهُ في سنوات التساؤلات وعدم الاستقرار الذي ما زال يعيشها منذ عام ١٩٧٥ وحتى اليوم، وخلال سنوات الوصاية السورية التي انتهت بالفواجع. ولكن التطلّع إلى الأمام هو واجب المتمسّكين بالحياة. والاستحقاق الرئاسي قريبٌ جدًا. ولقد وصل التنافس بين مرشّحَين ينتميان إلى جبهةٍ سياسية واحدة، أن وجدا نفسَيهما في حضرة من يفصل بينهما، ومن سبق له وقرّر الفراغ طيلة سنتَين ونصف السنة إفساحًا في المجال لشخصٍ واحدٍ لا غير.
فالاستحقاق مهمّ. مهمّ داخليًا وخارجيًا. وبه يُكتب التاريخ اللبناني الحديث إذ أن ولايات الرؤساء هي سنوات تسطير التاريخ الحديث. إذ يُسجّل في المراجع وفي الإعلام أحداثٌ وقعت في عهد الرئيس الفلاني أو الفلاني.
اليوم في خضمّ الانهيار، يتطلّع اللبنانيون إلى الرئاسة على أنها قد تكون بارقة خلاص. فتعبير الإنقاذ لعلّ مواصفاته غير متوفّرة في شارل ديغول لبنان. بل على سبيل المباشرة أقلّه في رسم الطريق الطويل: أين هو الرئيس الفاضل، الرئيس المجرّد، الرئيس القُدوة التي منها تتفرّغ القيادة. هل إنه غير موجود؟ هذا غير صحيح. فالمُؤهّلون عديدون إذا حاول المقرّرون تطبيق هذه المواصفات. أي رئيس موثوقٌ من حيث استقامته أولًا. فهل كثيرٌ على اللبنانيين؟
لم نعُد في زمن الأوائل في ما يعود إلى المراتب المعنوية للذين “وصلوا” أو الذين أوصلهم نظام الوصاية على صورة مقاييسه وليس على مقاييس حُسن ممارسة المسؤوليات في الرئاسة والوزارة والنيابة والمناصب الإدارية والأمنية والقضائية. ففي ذلك الحين وفي الزمن الحالي يُمكن القول بأقلّ الأوصاف أن السيادة اللبنانية منتقصة. والرئيس اللبناني حين يُقسم اليمين على الدستور فور انتخابه وُفقَ المادة 50 من الدستور يقول “أحلف بالله العظيم أني أحترم دستور الأمة اللبنانية وقوانينها، وأحفظ استقلال الوطن اللبناني وسلامة أراضيه”. وهي مادةٌ لم تتعدّل في اتّفاق الطائف، وبقيَ رئيس الجمهورية وفقَ المادة 49 رئيس الدولة ورمز وحدة الوطن والساهر على احترام الدستور والمحافظة على استقلال لبنان ووحدته وسلامة أراضيه وفقًا لأحكام الدستور”.
ومن يراجع عددًا من مواد هذا الدستور يلاحظ كم أن الرئيس ومركزه وصلاحياته مرتبطة بصورةٍ وثيقة بمواد الدستور.
على أن تَشوّه الممارسة لم تنحصر في زمن الوصاية فقط بل على إثر اتّفاق الدوحة الذي تحقّق أيار 2008 بعد احتلال القوى المعروفة لوسط العاصمة من مطلع كانون الأول 2006 إلى 22 أيار 2008، وأن ذلك الاتّفاق “كان الأمثل على الصعيد الدستوري لهذه الظروف الاستثنائية” أي أنه كان لمرّة واحدة ولحالةٍ واحدة. ويومذاك تمّ انتخاب الرئيس ميشال سليمان، الذي نصّت إحدى بنود اتّفاق الدوحة على حصةٍ له بثلاثةِ وزراء.
ولكن لماذا استمرار حصّة رئيس الجمهورية في الحكومة. الدستور المنبثق عن اتّفاق الطائف ذكر الاتّفاق ولم يذكر الحصص. والاتّفاق هو عنوان لرجلَين مؤتمنَين على المصير، وفقَ تحديد المسؤوليات. فلماذا جاءت حصّة رئيس الجمهورية كعنصرٍ طارئ على عملية تأليف الحكومة؟ إنها تُضعفه ولا تقوّيه. إنّه أصبح صاحب حصّة مثله مثل غيره من القوى السياسية التي صار أصحابها يُرسلون بمندوبيهم إلى مجلس الوزراء. فأصبحت السلطة التنفيذية مجلس مندوبين. وتفاقم الأمر كثيرًا في الأسماء والحقائب، وهو اليوم صلب المشكلة، عندما بات لرئيس الجمهورية حصّة ولحزبه حصّة.
الرئيس الحزبي؟ الرئيس القوي؟ كم دفع لبنان ثمن ذلك. ثمن الصراع على الحصص والكراسي. المطلوب بعد المآسي أمرٌ واحدٌ فقط لا غير، أن يأتي رئيسٌ يقول: أنا لا أُريد شيئًا لنفسي.
المطلوب رجلٌ يُعطي القدوة. فيخجل الباقون. هكذا تصرّف فؤاد شهاب أمام الآخرين. حكم بقوّته المعنوية وليس بصلاحياته. فالصلاحيات موجودة بالطبع، إذ أن رئيس الجمهورية بحكم ما يمثّل ومن يمثّل هو لاعبٌ أساسي. ولكن المطلوب اليوم، في ساعة الاستحقاق، هو غير الصلاحيات. الرئيس القُدوة. والصلاحيات إذ ذاك تنقاد إليه طائعةً مختارةً.
أين هو هذا الرجل. لا نصدّق أنه ليس موجودًا.

بقلم الدكتور داود الصايغ