كان وجه حسن نصرالله “نضراً”، تعزز انطباعاً بالاسترخاء والرضى. ورغم أنه لم يتخلَ عن النبرة الصارمة والعبارات المتصلبة، بدا وكأنه يستعمل كلمات جديدة على قاموسه. أو أن كلماته القديمة راحت تكتسب معاني جديدة. ليس نادراً أن يبتسم أو أن تظهر ضحكاته أو أن يعبر عن زهوه. لكن هذه المرة بدا “مسالماً” ومنشرحاً. كما أنه بذل جهداً ليقنعنا أنه مختلف حقاً وودوداً إلى حد ما. مع ذلك، منعه توجسه المتأصل فيه من الإسراع بالإعلان صراحة عما حدث. أو هو وجد صعوبة بمصارحة جمهوره دفعة واحدة. فاتفاق الترسيم البحري، مفتتح لمسار مختلف جذرياً عن ذاك المسار الذي اختاره حزب الله طوال أربعين عاماً. ونصرالله نفسه عبّر عن ذلك، بأسلوب شديد التبسيط: من الآن فصاعداً لا نريد قتل الناطور، بل أكل العنب. هذه القاعدة البديهية في “الحكمة الشعبية” لم تكن كذلك مع تاريخ حزب الله وعقيدته، الذي كانت غايته دوماً قتل الناطور وأغلب الأحيان حرق حقل الكرمة كله أيضاً. يمكن القول أن ذلك كان أصل الانقسام اللبناني العميق في قضية مصير الجنوب والحدود والتحرير، لا فقط مع حزب الله إنما منذ اتفاق القاهرة 1969، الذي أسس لسياسة قتل الناطور أكثر من نصف قرن تكدست فيه مآسينا. بطريقته راح يتنكر لمسألة خطوط الترسيم ويستسخفها، على نحو مناقض تماماً لأدبيات “المقاومة”. فالآن، ثمار البحر وقاعه هي الأهم. هذا هو فحوى المسار الجديد. يجب الاعتراف أن الحزب لأول مرة كان متلهفاً لانتصار “ديبلوماسي”، إذا جاز التعبير. تحول كبير وهائل في سيرة حزب الله، أن يقبل أو يفوّض أو يدعم التفاوض مع العدو، علاوة عن قبوله بالولايات المتحدة كـ”وسيط نزيه”، لعقد “اتفاقية حدودية”، يترتب عليها عملياً ضمانات أمنية توازي أو تفوق اتفاقية الهدنة الموقعة عام 1949. وهي بطبيعتها تعاون مشترك وتفاهمات اقتصادية وتشابك لا مفر منه في سوق بيع وشراء واستخراج وتصدير نفط وغاز.. فالاتفاقية في جوهرها ليست فقط ترسيماً وتقاسماً للمنافع الاقتصادية، إنما هي أشبه باعتراف رسمي بوجود تلك الجارة.. كمقدمة لما هو أبعد وإلى تخوم “التابو”: اتفاقية سلام. ما كانت أي حكومة لبنانية قادرة على هذا “الإنجاز” لو أن حزب الله بقي على سياسته “القديمة”. فهكذا اتفاق ما كان له أي قيمة لولا “الضمانات” المسبقة التي منحها حزب الله بالالتزام به. أفنينا ما يقارب العقدين ونحن نحاول إقناعه، وها هو فجأة يترنم بشعار: “لبنان لا يمكن أن يدار بالتحدي”. كم نود أن نصدّق.

يوسف بزي