تراجعت كل الملفات الاقتصادية والمالية الى الخطوط الخلفية في الاهتمامات الشعبية، وبات التركيز في هذه المرحلة على ملف وحيد: كيف سنواجه من الناحية المعيشية والاقتصادية تداعيات الحرب في حال وصولها الى لبنان، وتحوّل الـ»ميني حرب» المشتعلة في الجنوب، الى حرب مفتوحة وشاملة؟

لا شك في انّ ادارة اقتصاد الحرب علم قائم في حد ذاته، يعتمد على مفاهيم ومبادئ يتم تدريسها في اطار اختصاصات متوفرة في جامعات عريقة حول العالم. هذا العلم يتم تدعيمه بالتجارب التي تمر بها الشعوب والدول للافادة من تطوير النظريات، وضمان نجاحها في مراحل التنفيذ على الارض.

حالياً، تجهد الحكومة اللبنانية في عقد الاجتماعات المتتالية، بهدف اتخاذ اجراءات وتحضيرات لمواجهة احتمال الحرب. وتبني الحكومة حساباتها استناداً الى ما جرى في حرب تموز 2006، للانطلاق من هذه الوقائع الى دراسة ما يمكن فعله للتخفيف من معاناة الناس. لكن كل الخطط الورقية تصطدم بمشكلة واحدة: من اين سيتم تمويل الاجراءات؟ وسيكون السؤال التالي لاحقاً: من اين سنموّل اعادة الاعمار بعد الحرب؟

لا اجابة واضحة عن السؤالين، ولو ان الهمس المتداول يفيد بأن لا مفر من الارتداد الى اموال الناس الموجودة في مصرف لبنان (حوالى 8 مليارات دولار)، ووضع اليد عليها، بهدف تمويل اجراءات مواجهة الحرب، ومن ثم تمويل اعادة الاعمار. والفلسفة التي يستند اليها من يقول هذا الكلام همساً في الغرف المغلقة، انه اذا كانت الدولة سمحت لنفسها بمصادرة حوالى 15 مليار دولار من هذه الاموال لدعم الكاجو والنسكافيه، هل يجوز ان تمتنع عن مواصلة هذه السياسة لإنقاذ الارواح وإطعام الناس، واعادة تشييد جسور او مطار تهدّم، او اعادة بناء محطات ضخ مياه… لشعب قد يجوع ويعطش بعد الحرب؟

في الواقع، هذه التساؤلات تستدعي استحضار التجربة الاوكرانية التي لا تزال قائمة، ويمكن درس تجاربها في مجال ادارة اقتصاد الحرب، من خلال دور البنك المركزي فيها. وقد اتخذ المركزي الاوكراني، بقيادة حاكمه أندري بيشني (Andriy Pyshnyy)، الأطرش، (أصيب بمرض ضعف السمع قبل سنوات)، مجموعة تدابير واجراءات، يسهّل تعدادها انجاز المقارنة مع الحالة اللبنانية.

ومن ضمن هذه التدابير، ما يلي:
اولاً – ضمان استمرار عمل القطاع المصرفي بشكل طبيعي. وبفضل ذلك، يوجد دعم للتمويل والمدفوعات في الاقتصاد الذي يواصل العمل بكامل طاقته.
ثانياً – وضع قيود على تدفق الرساميل الى الخارج (capital control). وحالياً، وفي ظل استمرار تعافي الاقتصاد والنظام المصرفي في أوكرانيا، بدأت المداولات لمراجعة القيود التي فُرِضت أثناء فترة الأزمة، والعودة الى اقتصاد السوق بالكامل.
ثالثاً – مشروع «باور بانكينغ» (Power Banking) الذي يهدف إلى إنشاء شبكة من فروع البنوك تعمل باعتبارها شبكة واحدة. تضمّن المشروع تطوير حلول تشغيلية لدعم هذه الشبكة، حتى في ظروف انقطاع الكهرباء.
رابعاً – تطبيق نظام سعر صرف ثابت.
خامساً – إجراء تقييم للبنوك في أوكرانيا من خلال العمليات التشخيصية واختبار تحمل الضغوط.
سادساً – توقيع برنامج متابعة مع صندوق النقد الدولي، لتنسيق سياسة المالية العامة والسياسة النقدية، وتيسير التعاملات بين البنك المركزي الأوكراني ووزارة المالية.
سابعاً – التنسيق بين المركزي ووزارة المالية لتمويل الميزانية، من دون اللجوء الى البنك المركزي، لأنّ هذا الأمر من شأنه أن يخلق مخاطر وتحديات إضافية على استقرار الاقتصاد الكلي.
طبعا، هذه الاجراءات المتعلقة بمهام البنك المركزي، واكبتها اجراءات وتدابير اتخذتها الحكومة لدعم صمود الاقتصاد والمواطنين. لكن، ومن خلال دور المركزي، تمكن الملاحظة ان كل المعالجات تستند وتنطلق من واقع الحفاظ على دور القطاع المصرفي، ومن واقع منع تمويل الدولة، حتى في حالة الحرب، من اموال المركزي، ومن ضمان استمرار التنسيق والتفاعل والتعاون مع صندوق النقد.

وهذا يعني ان كل الاجراءات المطلوبة في لبنان استعداداً للحرب غير متوفرة، لأن سياسة الدولة قضت في ايام السلم على القطاع المصرفي، وصادرت اموال المركزي لتنفيذ سياسات دعم فاشلة فيها الكثير من الهدر والفساد، وأفشلت التعاون مع صندوق النقد بسبب الغموض غير البنّاء، وامتنعت عن الاجراءات المطلوبة لإنقاذ ما تبقّى من خلال الامتناع حتى الان عن اقرار الكابيتال كونترول، ولا تزال حتى اليوم، وبعد 4 سنوات على الأزمة، تتحدث عن ضرورة اعادة تقييم وضع المصارف لتبيان الاسود من الابيض…

من المفارقات في مقارنة من هذا النوع، ان حجم الاقتصاد الاوكراني هبط حوالى 35% بعد مرور عام على الحرب، في حين ان الاقتصاد اللبناني هبط حوالى 70% قبل ان تبدأ الحرب. وعليه، يمكن «تصوّر» النتائج الاقتصادية والمالية في لبنان، اذا «توّجنا» هذه المسيرة بحرب شاملة ومدمرة.