قاتل الهنود الحمر الأوروبيين لقرون، وخسروا أرضهم. ثمّ حاولوا في القرن التاسع عشر انقاذ ما تبقّى عبر الحوار مع الولايات المتّحدة الفتيّة، وخسروا مجدّدا، لأنّ واشنطن انحازت للعنصر الأوروبي ضدّهم بكلّ مرّة قضم المزيد من أراضيهم. لا البأس العسكري انقذ الهنود الحمر نظرا للاختلال الهائل ضدّهم بكلّ موازين القوى الديموغرافيّة والتكنولوجيّة، ولا التعويل على المفاوضات والنوايا الحسنة نفعهم.

هناك شيء من هذا حصل ويحصل مع الفلسطينيّين. بالعقود الأخيرة، حاول هؤلاء كلّ شيء للحصول على دولة وطنيّة. بين 1967 و 1982، جرّبت منظمّة التحرير النضال العسكري من خارج الأراضي الفلسطينيّة. بين 1987 و1993، دعمت المنظّمة النضال السلمي من الداخل، ولعب الرجل الثاني فيها، خليل الوزير (أبو جهاد) دورا مفصليّا بهندسة الانتفاضة الأولى ودعمها. اعتبارا من العام 1993، جرّب الفلسطينيّون المفاوضات. واليوم، يسلك الفلسطينيّون في غزّة درب المواجهة العسكريّة المفتوحة، هذه المرّة من أراضي الداخل. أتحدّث هنا عن طابع عام للمراحل الأربع، مع التسليم بأنّ الأمور كانت أكثر تعقيدا في كلّ منها، بمعنى أنّ المواجهات العسكريّة لم تلغ المفاوضات؛ ولا المفاوضات ألغت كلّ أعمال العنف.

تختصر هذه التكتيكات كلّ ما يمكن لحركة وطنيّة فعله لاسترجاع أرض تراها سليبة: النضال من الخارج؛ النضال من الداخل؛ النضال العسكري؛ النضال السلمي؛ وخلطة من كلّ ما سبق. لم ينفع شيء. وبهذه الأثناء، تعاقبت على الفلسطينيّين كلّ الايديولوجيّات التي يمكن استخدامها كاطار نظري لتفسير الصراع، وشحذ الهمم، عنيت اليمين الوطني (فتح)؛ اليسار (الجبهة الشعبيّة؛ والجبهة الديموقراطيّة)؛ والاسلاميّون (حماس؛ الجهاد). اختلفت هذه الجهات كثيرا، وتصارعت، ولكنّ مسألة أساسيّة تجمعها: كلّها فشلت باقامة الدولة الفلسطينيّة الموعودة.

منذ يومين، تنفّس اللبنانيّون الصعداء لأنّ حسن نصر اللّه لم يطلق المواجهة مع اسرائيل انطلاقا من الجنوب، كما خشي البعض. ولكن هل مصلحة لبنان حقّا بالستاتيكو؟ طبعا، لو صعّد نصر اللّه وقادنا الى المواجهة، لدخلنا محرقة. هل مصلحة لبنان بالحرب؟ ماذا، بمعنى آخر، لو أنّنا اليوم بهذا النوع من المآزق التي تودي مآلاته الى الخسارة، أيّا كانت؟

استطرادا، راهن مسيحيّون “وطنيّون” منذ منتصف القرن التاسع عشر على الخروج من مأزقهم الأقلّوي التاريخي عبر اجتراح نظريّات تقنع المسلمين بالتعاطي معهم كمتساوين بمشروع واحد، لا كذميّين بحماية الاسلام. نظّر بطرس البستاني بأنّ “الدين للّه والوطن للجميع”؛ وقال يوسف ابراهيم يزبك لاحقا بالشيوعيّة؛ وميشال عفلق بالقوميّة العربيّة؛ ويوسف السودا بالقوميّة اللبنانيّة؛ وانطون سعادة بالقوميّة السوريّة. كلّ هذه نظريّات مختلفة جدّا، ولكنّها تلتقي على محاولة اجتراح حلّ ما يجتمع بظلّه المسيحيّون والمسلمون كمتساوين ببوطقة واحدة. ولكن الاسلام هزم كلّ هذه المحاولات الواحدة تلو الأخرى، وها دور الأحزاب العلمانيّة كالقومي والشيوعي ينحصر بالتصفيق للحزب الخميني، أي للاسلام السياسي الذي يفترض أن يمثّل نقيضها الايديولوجي. على المقلب المعاكس، جرّب المسيحيّون “الانعزاليّون” اقامة مساحة منفصلة لحكمها وفق مقتضيات الهويّة اللبنانيّة المسيحيّة (الانحياز قيميّا للغرب؛ والحياد سياسيّا بقضايا الاقليم). ولكنّ المنطقة الشرقيّة انتقلت من مواجهة داخليّة الى مواجهة أخرى، وصولا الى مأساة حرب الالغاء، والسقوط المدوّي عام 1990. باختصار، لا المسيحيّون “الوطنيّون” فلحوا؛ ولا المسيحيّون “الانعزاليّون” نجحوا.

هل هناك قضايا خاسرة مهما فعل أصحابها؟ هل هناك، بمعنى آخر، ديناميكيّات بنيويّة تحرّك الأمور باتجّاهات محدّدة من تحت، يصبح معها الحراك السياسي من فوق تفصيلا، مهما فعل؟ المسألة ليست مسألة نظريّة حصرا – مع انّ نقاش ال Structure vs Agency ربّما يكون السؤال المحوري الذي تدور نظريّات العلوم السياسيّة حوله. المسألة مسألة خيارات شخصيّة تختلف جذريّا حسب طبيعة الجواب. ان لم يكن بالتاريخ من حتميّات، فللنضال السياسي الفردي معنى، حتّى بزمن الأزمات، أو خصوصا بها. بالمقابل، ان كانت بعض القضايا خاسرة مهما صار، فيصبح التعلّق العاطفي بها انتحار. والله أعلم.

الكاتب: هشام بو نصيف