هناك مقارنة رائجة تتردد لدى أوساط واسعة من اللبنانيين في المدة الأخيرة تقول: “هل من المعقول أن الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في 17 تشرين الأول 2019، وأنزلت فئات كثيرة من الشعب اللبناني أثرها في كل المناطق إلى الشارع بعد قرار الحكومة فرض رسم 20 سنتاً على استخدام الواتساب، فيما ارتفعت وتضاعفت كل أسعار السلع والمشتريات بنسبة أكثر من 90 % ولا تزال ردود فعل الناس هادئة”.

ما الذي جرى حين اشتعلت الأرض بغضب أغلب فئات الشعب احتجاجاً على زيادة حفنة من القروش على موازنة كل مواطن، فيما السكون الاجتماعي يسيطر الآن، في الوقت الذي تحلق فيه وترتفع كل الأسعار بشكل جنوني؟!

ما الذي حدث في تشرين الأول 2019 وفجّر الحراك الاجتماعي الكبير، وما الذي يحدث الآن من سكون وارتباك فيما التكاليف والأعباء تتضاعف وتتصاعد على الناس وجيوبها وأكتافها؟

الأمر لم ولن يقف عند هذه الحدود، كما هو ظاهر، بل سيتخطاها إلى مراحل جديدة أكثر فداحة وخطورة.

إذا كان وزير الاتصالات السابق، المبدع، محمد شقير، قد اقترح سابقاً، زيادة الضريبة على استخدام الواتساب، وتسبب اقتراحه باندلاع الاحتجاجات وخراب البصرة، فإن الحديث الدائر الآن في وسائل الإعلام وعلى لسان المسؤولين، أن على المواطنين الاستعداد لتلقي زيادات كبيرة وكبيرة جداً في أسعار الاتصالات واستخدام الانترنت، وخدمات أخرى كثيرة، لأن المؤسسات والشركات التي تقدم هذه الخدمة ذاهبة إلى الإفلاس إذا لم تعدل أسعارها!

المواطن الذي كان يسدد فواتير الكهرباء ببضعة آلاف من الليرات قبل اندلاع الأزمة، بات الآن ينفق أغلب مداخيله للحصول على ساعات قليلة من التيار الكهربائي عبر المولدات الخاصة، ولا يقدم على القيام بأي تحرك احتجاجي، بل يغرق في صمت يراكمه صمت، ليدخل في دوامة صمت متعاظمة ومستمرة.

ربطة الخبز التي تعتبر الركن الأساسي لغذاء كل عائلة ارتفع سعرها من ألفي ليرة إلى أكثر من عشرة آلاف ليرة، ولم يكن هناك من رد فعل ملموس، فيما سبق لمثل هذا التبدل في مصر يوماً، أن أحدث انتفاضة أرجفت الدولة وقضت مضاجعها وأجبرتها على التراجع.

ما الذي حدث ويحدث في لبنان؟

آخر يوم غضب دعت إليه نقابات واتحاد عمال النقل البري في لبنان، كان باهتاً لدرجة أن بعض محطات التلفزة لم تجد على بعض الطرق سائقاً تتحدث معه عن المناسبة وخلفياتها!

صحيح أن مواطناً فرداً في البقاع قد “فار دمه” ودخل إلى أحد المصارف محتجاً ومحتجزاً موظفين للحصول على أمواله المحجوزة، لكن الصحيح أن أغلب الشعب اللبناني صودرت مداخيله ومدخراته في المصارف ولم يحرك حتى الآن ساكناً.

ما الذي حدث ويحدث في لبنان لكي تصل الأمور إلى تحويل الناس إلى ما يشبه قطعان أغنام ساكنة وقانعة بمصيبتها وسط هذه الكمية الهائلة من الإذلال والتعسف؟

لقد نجحت حتى الآن مافيا السلطة المسيطرة والمكونة من اتحاد المقاولين السياسين بمختلف أطرافها الطائفية، في ترويض وتدجين الشعب اللبناني وسحق أي إمكانية للتحرك والتمرد النافع والإيجابي.

باتت أغلب وسائل الإعلام المتابعة وشخصيات مسؤولة تتحدث عن الأكلاف العالية المقبلة للخدمات بتسليمٍ وبراحة واضحة ومن دون تردد. وكل ذلك بغياب أي خطط أو بوادر تفكير لمشاريع حماية للفئات المسحوقة، المدمرة اقتصادياً واجتماعياً، حتى أن ما حُكي عن بطاقة تموينية، أي بطاقة شحادة وتسول ممغنطة، لم تر النور بعد بطبعتها الأولى.

كرة ثلج زيادات الأسعار الكارثية المقبلة على المواطنين ما بعد الموازنة، وما يسمى خطة التعافي بالتعاون مع صندوق النقد الدولي قد تكون غير محتملة إطلاقاً.

نائب رئيس الحكومة سعادة الشامي، تحدث عن النجاح في تحديد رقم الخسائر الواقعة جراء الكارثة اللبنانية والمقدرة بـ69 مليار دولار، لكن كيف ستتوزع أعباء هذه الخسارة؟ ما من جواب واضح حتى الآن.

بعض وسائل الإعلام عرض تحقيقات عن الثلاجات والبرادات الفارغة والبطون الخاوية. لكن اللبنانيين ليسوا وحدهم في هذا المصير القاتم تحت رحمة إدارة التوحش المافياوي السلطوي المتحكم بالأنفاس.

السوريون يعيشون بين الركام وفي ظلال العدم والخراب الشامل، فيما تتنافس أعداد ليست قليلة من الشعب المصري على العيش بين المقابر والعشوائيات وأكوام القمامة. حتى العراق الذي يملك ثروة نفطية هائلة وموارد ضخمة، يرزح قسم ضخم من شعبه تحت خط الفقر.

لبنان لن يكون فريداً ولوحده في ظل اتساع هذا الانسحاق الشامل المسيطر والمعمم، فقد انضم بلدنا بفضل التركيبة السياسية المسيطرة، وبتفوق، إلى مجموعة من البلدان الخربة الفاشلة، والتي لا تتنافس إلا على الفشل والفشل وحده.

عارف العبد لموقع المدن الالكتروني